المشاركات الشائعة

الخميس، 3 يوليو 2014

الجِنْس وأمثاله ..

باسم الله

الجِنْس وأمثاله

     قد لا تجد – رفيقي القارئ – هذا المقال موضوعيًّا جدًّا ، بخلاف ما أسلُكه في الكتابات التي أقصد من خلاله بيان فكرة محدّدة ودقيقة ، ولست – على هذا – الوحيد الذي لا يسلك سلوك الموضوعيّة في كتاباته ، على الأقل إني أرجو في عدم موضوعيّتي هذه أن أسلّيَك ببعض الأفكار الجانبية المفيدة أو المثيرة – طالما أننا نتحدث هنا عن الإثارة ، مع أني أظنّ أن الإثارة التي في ذهنك ليست هي بالتمام الإثارة التي أقصدها ! ولست أرى في ذلك مشكلة ولا في نفسي حرجًا ، بل هذا جزء من الإثارة أيضًا .

     قد لا تجد هذا المقال موضوعيًّا ، ولكنّي أريد أن أقولَ لك أنّ هذا المقال هو نتيجة ملل وفراغ وبحث عن شيء يملأه ، ولست أدري إن كان مفهومك عن الملل هو ما أقصد أيضًا ! ولكن الذي أعرفه أن المفهوم العلميّ للملل هو ذلك الشعور بأن جزءًا من الذات – أو كل الذات – يشعر بعدم تلبية حاجته ، فهو يشعر بأن كل ما هو متاح أمامه غير كافٍ وغير مرضٍ ولا مشبع ، إنه شعور مطلَق رهيب ؛ فهو يمثّل قوة من القوى التي خُلِقت في الكون ، وعلاوةً على ذلك ، أعتبره مؤشّرًا لأن هذه الحياة الدنيا لا تكفي ابنَ آدم ؛ إذ هو مخلوق في الجنة – كما نقول نحن المسلمون أو المؤمنون بشكل عامّ – ، ولا يشترط هذا أن يكون صحيحًا ، فربما كان الملل ظرفيًّا وقتيًّا لا يستمر إلى الممات ، فعندها تكون هذه الفكرة ليست في محِلّها ، وعلى كل الأحوال ، الدار الآخرة هي موجودة وهي المآل النهائي لكل أمر ، وهي محطّة الحقيقة والحقيقة فقط للكون والخليقة كلّها .

     سأطرح أمامك مادّة العنوان الآن مباشرةً . ولكن لعلّك تتحرّج أو ربما تتقزز مما قد يبدو لك صراحةً زائدة في العنوان وموضوعه ، أو ربما دناءةً فكريّة ، في الحقيقة لم أشعر بهذا الحرج في نفسي ، وأنا لا أكتب هذا المقال استمتاعًا بهذه الغريزة محضةً ، ولا طلبًا لسبر أغوار المحظور ، ولا تندّرًا وقصدًا لموارد الغرابة في الكلام والتطرّف فيه ، بل شكرًا لنعمة معرفة الحقائق البنّاءة وسياحةً في سَعة المعرفة بهذه الخليقة الواسعة ، وإنّي لأستمدّ هذه الروح من كتاب الله العظيم ، روحِ الحقيقة والسَّعة الرّهيبة – من الرهبة – .

     كيف هي متعة الجنس ؟! لا شكّ أنها قد تكون من ضمن المتَع غير المبررة بسبب واضح ، قد يكون الشِّبع مبرّرًا بقضاء حاجة الجوع ، والرواء بقضاء حاجة الظمأ ، وقد يكون الجنس أيضًا مبررًا بـ... ، أو لعلّه غير مبرّر فعلاً ! فالتناسُل قد لا يكون سببًا مقنعًا كليًّا ودافعًا لهذه العمليّة ، لعله على كلّ حال بابًا يفتحُ لنا آفاقًا جديدة كما هو يفعَل الآن في هذا المقال ، وإن كثيرين – أو الغالب – يرون أن هذه المتعة هي سيدة المتع الحسية ، ولا تجاريها في هذا متعة ، مع أنها قد تكون ليست حسيّة بالمعنى الدنيء ، بل لو كانت حسيّة لكانت كثير من المتع المعنوية كالحب والحنان والعطاء متعًا حسيّةً كذلك ، ولكن هذه المتع ليست بالدناءة التي تتبادر في كثير من الأحيان في لفظ " حسية " ، بل هي من الشرف والرقيّ ما يجعلها منقبةً من مناقب الخليقة والإنسان على وجه الخصوص ، وإنّ كل المشاعر والعواطف وحتى الأفكار عرَفنا أنّها موادّ وعمليات " حسيّة " تتم فينا ، حتى أن بعضهم تندّر فقال : إن الدوبامين والسيروتونين هما السببان الوحيدان للسعادة .

     ولكنْ هل فكرت – عزيزي القارئ – أن هناك متعةً قد تصل لقوة ونفاذ متعة الجنس ؟! بحيث تملأ لحظتَك التي تقوم بها فيه ؟!

     أنا – شخصيًّا – قد رأيت مثل هذا المعنى جليًّا في بعض رسوم الأطفال أو المراهقين ، وغالبًا لم أعتمد على تلك الرسوم في التسليم بهذه الفكرة ، ولكن المقارنة بالطبيعة والواقع المَعِيش يجعل هذا المعنى قريبًا للصحة والواقعية ، ولكنْ قد ينقصُنا شيء حتى نصل بالمتع الأخرى لحدّ متعة الجنس ، قد يكون انسجامنا مع أنفسنا ونظرنا فيها وفي حاجاتها ومآربها الحقيقية كافةً الكامنة في كل فردٍ منا .

     إنّنا إذا أصغينا لأصوات أنفسنا العميقة ، مثل تلك التي تنادينا في ساعات الملل وتخبرنا أننا نحتاج شيئًا غير موجود ، لو أنصتنا لها بعناية وتركيز وانفتاح ، فإننا سنعرِف رغباتٍ كثيرة دفينة في أنفسنا ، نسعى لتحقيقها وملئها في كل أيامنا عفويًّا أو بالتدبير والتخطيط .

     ثم إننا إذا عرفنا هذه الرغبات الدفينة في أنفسنا ، وآمنّا بها ، فإنه غير مستبعدٍ أننا نوليها اهتمامًا كبيرًا ؛ فإنها تعطي لأيامنا وليالينا معنًى وهدفًا ، وأيًّا كانت تلك الرغبات ، فإنها لن تكون تافهةً ، الواقع والحقيقة لن يكونا تافهَين ، بل لهما أسباب ومبرّرات جعلتهما على ما هما عليه ، وعلاج أي مشكلة فيهما تكمن في تفهّم هذه الأسباب والدوافع وتلبيتها ، وهي لن تكون تافهةً . تخيّل لو أن لديك طفلاً يلتصق بك في كثير من الأوقات ، وأنت قد تنزعج من هذا ، ولا تولي التصاقه اهتمامًا كبيرًا ولا تبدي لهذا عناية في خطابك له وتعاملك معه ، لو عرفتَ أن دافعَه هو فقرٌ عاطفيّ ، هل ستستخفّ بهذا الدافع ؟! إن الاستخفاف بدافع كهذا هو عدم إنسانيّة ووحشيّة ! وهبْ أنّ طفلةً لك تحدّثك بإنجازات لها في مدرستها ، بشكل قد يكون بالنسبة لك تظاهرًا ورغبةً في عرض العضلات ، ولكنْ بالنظر أنه صادر من طفلة على فطرتها وأنت تعرف خلفيّتها التربويّة لا يمكن القبول بهذا ، لو عرفتَ أن دافعها لهذا الفعل هو الحاجة للتقدير والحافز الدافع لمزيد من الإنجاز والعطاء ، أو ربما الحاجة المعروفة للمشاركة مع الغير لا سيّما المهمّين بالنسبة للفرد – هل ستعتبر هذه الحاجة مذلّة أو هوانًا ؟! سيكون هذا مشكلة كبيرة في الحقيقة ! وإنّ مثل هذه الدوافع قد تبدُر من كبير قويّ غير طفل  ، ولن يختلِف الأمر ، فتلك الحاجة الدافعة لهذا الفعل يجب أن تلبّى ، ولن يفهَم هذا إلا من استمع لصوت ذاته يومًا واعتنى به ، لا من سار مهملاً ذلك الصوت ومسايرًا لما عليه ظواهر الأشياء وعوامّ الناس ، وكلّما ابتعدنا عن حقائقنا وذواتنا كلما استمررنا في خداع أنفسنا ، ومكثنا في مشكلاتنا وعللنا ، وفقدنا الفاعليّة وابتعدنا عمّا جُعِلنا له ، وكفى بهذا تخلّفًا وتضييعًا . لحظة ! هل أعني أنّ هناك غايات أخرى غير عبادة الله من خلقنا ؟! لا لست أقول هذا ، ولكن لنقِف أنفسَنا ونسأل : هل نحن فعلاً استشعرنا أننا مخلوقون لعبادة الله ؟! وهل نحن استشعرنا معنى " عبادة الله " من أصلها ؟! أم أننا مجرّدًا حفِظنا كلماتٍ لم تخترق السطح من عقولنا ؟! إن العبادة لها أشكال كثيرة ، وإن الغاية من خلقنا يُتوصَّل لها بأشكال كثيرة كذلك ، ويعرِف ذلك من عرَف سَعة القرآن وخطاب الله – سبحانه – ، نتوصل إليه بكلمة الحق ، بالإصلاح ، بنشر الخير ، بالاجتهاد ، بالسعي والانطلاق المخلصَين للحق والخير ، إنّ العمل لأقوى بكثير من القول ، ولكنّ الكسالى لا يدركون هذا ! ونسأل الله – تعالى – ألا نكون منهم !

     إنّ الإنصات لأصواتنا الداخليّة والتي تجيبنا عن سؤال : " ماذا نريد في حيواتنا ؟! وما نحن على الحقيقة ؟! " ، والتي يتلوها الاهتمام بحقائقنا ، إن ذلك سوف يقودنا لسعي فعليّ لتحقيق رغباتنا ورسائلنا الحقيقية ، وإن فكرة أن ما نسعى إليه هو غاية رسالتنا في الحياة – لهو أمر يستحق الاهتمام كلّه والعناية كلها ، وسوف يؤدّي بنا إلى معانٍ مطلقة تتجاوز المكان والزّمان ، وتخترقهما إلى الصميم والقلب .

     وبعد هذا سوف تقودُنا إلى السعادة المطلقة ، ربما مثل تلك التي نشعر بها في لحظات الجنس ، أو ربما – أو في الغالب – أعظم من ذلك ، أو ربما – حتى أكون معك واضحًا وشفّافًا – لا تصلُح المقارنة بين الشيئين ، إلا في النتائج النهائية ، فأيهما أعظم : تحقيق الذات والعمل على الحقائق العظيمة العامة التي تشمل كل الكون ، أم متعة بين فردين – وإن كان ما بينهما علاقة عميقة – لا تنتج كثيرَ معنًى ولا واسعَ أثر مقارنةً بالأمر السابق ؟! لست أحضّر جوابًا نهائيًّا ، أنت احكُم ، أو لا تفعل .

     أظنّ أنّا نحن هكذا البشر ، الذين حملنا الأمانة على عواتقنا ، غاية ما نسعى لتحقيقه في الحقيقة هو الوصول إلى الحقيقة ذاتها والسعي لها وعَيشها والعمل بمقتضاها ، ثم ليكنِ الموت متى ما يكون بعد ذلك .

     ربما الآن اتّضح أن ما كان مقصودًا بـ" أمثال " الجنس ليسوا بأمثال في الحقيقة ، بل فوائق له وسوابق ، نسأل الله أن يبلّغناها .

     هل لا زلتَ تذكر كلامي عن الملل ؟! ألا يكفي بحقّ كفائدة وعائد للملل أن يصدُر منه مقال كهذا ؟! لست أزعم أن الجواب : نعم ، فهذا يعتمد عليك ، ولو أنني آمل هذا !

     في النهاية يُظهِر الملل نفسَه أنّه لبّ الموضوع ، ويأتي سؤال : هل أغيّر العنوان إذًا ؟!

     ولكن بعد انبناء المقال جلّه على العنوان ، بما فيه من هذه السطور الأخيرة ، فإن تغيير العنوان سيخلُق تعقيدًا جديدًا بين أعصاب القارئ ربما ، إلا إذا وضعتُ بعد التعديل عبارة " كان العنوان : الجنس وأمثاله ثم غيّرته لأني اكتشفت أن الملل كان هو الدافع الحقيقي ، وهو أيضًا بالمناسبة .. ليس دافعًا تافهًا ! " .

     يبدو أن هذا إغراق محيّر في التفكير قد يقود إلى التبلّد !

     آمُل في هذه السطور .. أنّي وإياك يا رفيقي .. قد استفدنا .. واستمتعنا ..

بسّام بن عصام يغمور

جدّة – 2/11/1434

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق