باسم
الله
الجِنْس
وأمثاله
قد لا تجد – رفيقي القارئ – هذا المقال
موضوعيًّا جدًّا ، بخلاف ما أسلُكه في الكتابات التي أقصد من خلاله بيان فكرة
محدّدة ودقيقة ، ولست – على هذا – الوحيد الذي لا يسلك سلوك الموضوعيّة في كتاباته
، على الأقل إني أرجو في عدم موضوعيّتي هذه أن أسلّيَك ببعض الأفكار الجانبية
المفيدة أو المثيرة – طالما أننا نتحدث هنا عن الإثارة ، مع أني أظنّ أن الإثارة
التي في ذهنك ليست هي بالتمام الإثارة التي أقصدها ! ولست أرى في ذلك مشكلة ولا في
نفسي حرجًا ، بل هذا جزء من الإثارة أيضًا .
قد لا تجد هذا المقال موضوعيًّا ، ولكنّي
أريد أن أقولَ لك أنّ هذا المقال هو نتيجة ملل وفراغ وبحث عن شيء يملأه ، ولست
أدري إن كان مفهومك عن الملل هو ما أقصد أيضًا ! ولكن الذي أعرفه أن المفهوم
العلميّ للملل هو ذلك الشعور بأن جزءًا من الذات – أو كل الذات – يشعر بعدم تلبية
حاجته ، فهو يشعر بأن كل ما هو متاح أمامه غير كافٍ وغير مرضٍ ولا مشبع ، إنه شعور
مطلَق رهيب ؛ فهو يمثّل قوة من القوى التي خُلِقت في الكون ، وعلاوةً على ذلك ،
أعتبره مؤشّرًا لأن هذه الحياة الدنيا لا تكفي ابنَ آدم ؛ إذ هو مخلوق في الجنة –
كما نقول نحن المسلمون أو المؤمنون بشكل عامّ – ، ولا يشترط هذا أن يكون صحيحًا ،
فربما كان الملل ظرفيًّا وقتيًّا لا يستمر إلى الممات ، فعندها تكون هذه الفكرة
ليست في محِلّها ، وعلى كل الأحوال ، الدار الآخرة هي موجودة وهي المآل النهائي
لكل أمر ، وهي محطّة الحقيقة والحقيقة فقط للكون والخليقة كلّها .
سأطرح أمامك مادّة العنوان الآن مباشرةً .
ولكن لعلّك تتحرّج أو ربما تتقزز مما قد يبدو لك صراحةً زائدة في العنوان وموضوعه
، أو ربما دناءةً فكريّة ، في الحقيقة لم أشعر بهذا الحرج في نفسي ، وأنا لا أكتب
هذا المقال استمتاعًا بهذه الغريزة محضةً ، ولا طلبًا لسبر أغوار المحظور ، ولا
تندّرًا وقصدًا لموارد الغرابة في الكلام والتطرّف فيه ، بل شكرًا لنعمة معرفة
الحقائق البنّاءة وسياحةً في سَعة المعرفة بهذه الخليقة الواسعة ، وإنّي لأستمدّ
هذه الروح من كتاب الله العظيم ، روحِ الحقيقة والسَّعة الرّهيبة – من الرهبة – .
كيف هي متعة الجنس ؟! لا شكّ أنها قد تكون
من ضمن المتَع غير المبررة بسبب واضح ، قد يكون الشِّبع مبرّرًا بقضاء حاجة الجوع
، والرواء بقضاء حاجة الظمأ ، وقد يكون الجنس أيضًا مبررًا بـ... ، أو لعلّه غير
مبرّر فعلاً ! فالتناسُل قد لا يكون سببًا مقنعًا كليًّا ودافعًا لهذه العمليّة ،
لعله على كلّ حال بابًا يفتحُ لنا آفاقًا جديدة كما هو يفعَل الآن في هذا المقال ،
وإن كثيرين – أو الغالب – يرون أن هذه المتعة هي سيدة المتع الحسية ، ولا تجاريها
في هذا متعة ، مع أنها قد تكون ليست حسيّة بالمعنى الدنيء ، بل لو كانت حسيّة
لكانت كثير من المتع المعنوية كالحب والحنان والعطاء متعًا حسيّةً كذلك ، ولكن هذه
المتع ليست بالدناءة التي تتبادر في كثير من الأحيان في لفظ " حسية " ،
بل هي من الشرف والرقيّ ما يجعلها منقبةً من مناقب الخليقة والإنسان على وجه
الخصوص ، وإنّ كل المشاعر والعواطف وحتى الأفكار عرَفنا أنّها موادّ وعمليات
" حسيّة " تتم فينا ، حتى أن بعضهم تندّر فقال : إن الدوبامين
والسيروتونين هما السببان الوحيدان للسعادة .
ولكنْ هل فكرت – عزيزي القارئ – أن هناك
متعةً قد تصل لقوة ونفاذ متعة الجنس ؟! بحيث تملأ لحظتَك التي تقوم بها فيه ؟!
أنا – شخصيًّا – قد رأيت مثل هذا المعنى جليًّا
في بعض رسوم الأطفال أو المراهقين ، وغالبًا لم أعتمد على تلك الرسوم في التسليم
بهذه الفكرة ، ولكن المقارنة بالطبيعة والواقع المَعِيش يجعل هذا المعنى قريبًا
للصحة والواقعية ، ولكنْ قد ينقصُنا شيء حتى نصل بالمتع الأخرى لحدّ متعة الجنس ،
قد يكون انسجامنا مع أنفسنا ونظرنا فيها وفي حاجاتها ومآربها الحقيقية كافةً
الكامنة في كل فردٍ منا .
إنّنا إذا أصغينا لأصوات أنفسنا العميقة ،
مثل تلك التي تنادينا في ساعات الملل وتخبرنا أننا نحتاج شيئًا غير موجود ، لو
أنصتنا لها بعناية وتركيز وانفتاح ، فإننا سنعرِف رغباتٍ كثيرة دفينة في أنفسنا ،
نسعى لتحقيقها وملئها في كل أيامنا عفويًّا أو بالتدبير والتخطيط .
ثم إننا إذا عرفنا هذه الرغبات الدفينة في
أنفسنا ، وآمنّا بها ، فإنه غير مستبعدٍ أننا نوليها اهتمامًا كبيرًا ؛ فإنها تعطي
لأيامنا وليالينا معنًى وهدفًا ، وأيًّا كانت تلك الرغبات ، فإنها لن تكون تافهةً
، الواقع والحقيقة لن يكونا تافهَين ، بل لهما أسباب ومبرّرات جعلتهما على ما هما
عليه ، وعلاج أي مشكلة فيهما تكمن في تفهّم هذه الأسباب والدوافع وتلبيتها ، وهي
لن تكون تافهةً . تخيّل لو أن لديك طفلاً يلتصق بك في كثير من الأوقات ، وأنت قد
تنزعج من هذا ، ولا تولي التصاقه اهتمامًا كبيرًا ولا تبدي لهذا عناية في خطابك له
وتعاملك معه ، لو عرفتَ أن دافعَه هو فقرٌ عاطفيّ ، هل ستستخفّ بهذا الدافع ؟! إن
الاستخفاف بدافع كهذا هو عدم إنسانيّة ووحشيّة ! وهبْ أنّ طفلةً لك تحدّثك
بإنجازات لها في مدرستها ، بشكل قد يكون بالنسبة لك تظاهرًا ورغبةً في عرض العضلات
، ولكنْ بالنظر أنه صادر من طفلة على فطرتها وأنت تعرف خلفيّتها التربويّة لا يمكن
القبول بهذا ، لو عرفتَ أن دافعها لهذا الفعل هو الحاجة للتقدير والحافز الدافع
لمزيد من الإنجاز والعطاء ، أو ربما الحاجة المعروفة للمشاركة مع الغير لا سيّما
المهمّين بالنسبة للفرد – هل ستعتبر هذه الحاجة مذلّة أو هوانًا ؟! سيكون هذا
مشكلة كبيرة في الحقيقة ! وإنّ مثل هذه الدوافع قد تبدُر من كبير قويّ غير
طفل ، ولن يختلِف الأمر ، فتلك الحاجة
الدافعة لهذا الفعل يجب أن تلبّى ، ولن يفهَم هذا إلا من استمع لصوت ذاته يومًا
واعتنى به ، لا من سار مهملاً ذلك الصوت ومسايرًا لما عليه ظواهر الأشياء وعوامّ
الناس ، وكلّما ابتعدنا عن حقائقنا وذواتنا كلما استمررنا في خداع أنفسنا ، ومكثنا
في مشكلاتنا وعللنا ، وفقدنا الفاعليّة وابتعدنا عمّا جُعِلنا له ، وكفى بهذا
تخلّفًا وتضييعًا . لحظة ! هل أعني أنّ هناك غايات أخرى غير عبادة الله من خلقنا
؟! لا لست أقول هذا ، ولكن لنقِف أنفسَنا ونسأل : هل نحن فعلاً استشعرنا أننا
مخلوقون لعبادة الله ؟! وهل نحن استشعرنا معنى " عبادة الله " من أصلها
؟! أم أننا مجرّدًا حفِظنا كلماتٍ لم تخترق السطح من عقولنا ؟! إن العبادة لها
أشكال كثيرة ، وإن الغاية من خلقنا يُتوصَّل لها بأشكال كثيرة كذلك ، ويعرِف ذلك
من عرَف سَعة القرآن وخطاب الله – سبحانه – ، نتوصل إليه بكلمة الحق ، بالإصلاح ،
بنشر الخير ، بالاجتهاد ، بالسعي والانطلاق المخلصَين للحق والخير ، إنّ العمل
لأقوى بكثير من القول ، ولكنّ الكسالى لا يدركون هذا ! ونسأل الله – تعالى – ألا
نكون منهم !
إنّ الإنصات لأصواتنا الداخليّة والتي
تجيبنا عن سؤال : " ماذا نريد في حيواتنا ؟! وما نحن على الحقيقة ؟! " ،
والتي يتلوها الاهتمام بحقائقنا ، إن ذلك سوف يقودنا لسعي فعليّ لتحقيق رغباتنا
ورسائلنا الحقيقية ، وإن فكرة أن ما نسعى إليه هو غاية رسالتنا في الحياة – لهو
أمر يستحق الاهتمام كلّه والعناية كلها ، وسوف يؤدّي بنا إلى معانٍ مطلقة تتجاوز
المكان والزّمان ، وتخترقهما إلى الصميم والقلب .
وبعد هذا سوف تقودُنا إلى السعادة المطلقة ،
ربما مثل تلك التي نشعر بها في لحظات الجنس ، أو ربما – أو في الغالب – أعظم من
ذلك ، أو ربما – حتى أكون معك واضحًا وشفّافًا – لا تصلُح المقارنة بين الشيئين ،
إلا في النتائج النهائية ، فأيهما أعظم : تحقيق الذات والعمل على الحقائق العظيمة
العامة التي تشمل كل الكون ، أم متعة بين فردين – وإن كان ما بينهما علاقة عميقة –
لا تنتج كثيرَ معنًى ولا واسعَ أثر مقارنةً بالأمر السابق ؟! لست أحضّر جوابًا
نهائيًّا ، أنت احكُم ، أو لا تفعل .
أظنّ أنّا نحن هكذا البشر ، الذين حملنا
الأمانة على عواتقنا ، غاية ما نسعى لتحقيقه في الحقيقة هو الوصول إلى الحقيقة
ذاتها والسعي لها وعَيشها والعمل بمقتضاها ، ثم ليكنِ الموت متى ما يكون بعد ذلك .
ربما الآن اتّضح أن ما كان مقصودًا بـ"
أمثال " الجنس ليسوا بأمثال في الحقيقة ، بل فوائق له وسوابق ، نسأل الله أن
يبلّغناها .
هل لا زلتَ تذكر كلامي عن الملل ؟! ألا يكفي
بحقّ كفائدة وعائد للملل أن يصدُر منه مقال كهذا ؟! لست أزعم أن الجواب : نعم ،
فهذا يعتمد عليك ، ولو أنني آمل هذا !
في النهاية يُظهِر الملل نفسَه أنّه لبّ
الموضوع ، ويأتي سؤال : هل أغيّر العنوان إذًا ؟!
ولكن بعد انبناء المقال جلّه على العنوان ،
بما فيه من هذه السطور الأخيرة ، فإن تغيير العنوان سيخلُق تعقيدًا جديدًا بين
أعصاب القارئ ربما ، إلا إذا وضعتُ بعد التعديل عبارة " كان العنوان : الجنس
وأمثاله ثم غيّرته لأني اكتشفت أن الملل كان هو الدافع الحقيقي ، وهو أيضًا
بالمناسبة .. ليس دافعًا تافهًا ! " .
يبدو أن هذا إغراق محيّر في التفكير قد يقود
إلى التبلّد !
آمُل في هذه السطور .. أنّي وإياك يا رفيقي
.. قد استفدنا .. واستمتعنا ..
بسّام بن عصام يغمور
جدّة –
2/11/1434
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق