باسم
الله
ملَّةُ
الخليل – عليه الصلاة والسَّلام –
ما أبهاها من قصةٍ قصة إلهام الرب – سبحانه –
لخليله وأبي أنبيائه إبراهيم – عليه وآله ومحمد وآله الصلاة والسلام – حقيقةَ
التوحيد وحقيقةَ الربوبيّة !
إنّها نموذجٌ لصياغة الإيمان الحق .
وإنّها لضياءٌ وكشْفٌ لكثيرينَ سفّلوا مفهوم
الإيمان وسفّهوه بجهل .
إنّها ضرورةٌ قصوى لكل مسلمٍ في المقام
الأول ، ولكل داعيةٍ إلى الإيمان بالرسالة الخاتَمة ، وإلى كل الناس حتى يفهموا
هذه الرسالة .
كانتِ بذرة الإيمان في خليل الرحمنِ في أرضٍ
خصبة قد سُقِيتْ – سقيا اللهُ أعلم بها – ، إلاّ أنّها كانت بلا شكٍّ في المكان
الصالح وبشكلٍ اعتُنِيَ بها فيه .
كانتِ البذرة هذه وآيةُ الله لدى البشر
للدلالة عليه معتنًى بها ، وذلك على الرَّغم من رفض هذا الإنسان الصالح الحرِّ لما
كان عليه قومُه وعلى رأسهم أبيه نفسه ، من وضعهم للإيمان – ذلك المعنى العظيم
الرباني الإنسانيّ – في موضعٍ مسيء ، وضعوه لأصنامٍ صنعوها بأنفسهم بل وتأكدوا من
أنها لا تستطيع دفع الضرّ عن نفسها فضلاً عن غيرها ، فهي حتى ليس فيها روحٌ ! وهل
هذه المخلوقات إلا بالروح ؟! ولولا الرُّوحُ ما الحياةُ وما السموّ وما الرقيّ ؟َ!
إنّ هذا الرفض للواقع غير المتلائم مع النفس
والفطرة – ولا نقول غير المتلائم مع المنطق ؛ فالإيمان لا يتطلّب المنطق في أساسه بل
الصدق مع النفس والمعرفة بالحقيقة وهداية الله – إن هذا الرفض هو عينُ الحرّيّة ،
وعينُ الاستقلال ، وعينُ القوّة .
وإنّ هذه المفاهيمَ الثلاثَ يتحجج بها
كثيرونَ ملحدون ، ولكنّ القاصمَ فيهم هو عدم استماعِهم لنداء فطرتِهم وأرواحهم
التي سكنتْ أجسادهم كأضياف عابرين ، ولكنّ كثيرًا منهم لم يصل لهذه الحقيقة . وإن
تجربةً واستقصاءً من واحدٍ منهم للأديان والرسائل السماويّة قد كان يكفي لاهتدائهم
لو أراد الله ، ولكنّ كل هذا مرهونٌ ومعقودٌ بأن الله يهدي إليه من يشاء ومن ينيب
، وهو مسببّ الأسباب ومصرّف الآيات جميعًا .
إنّ مفهوم إبراهيم الخليل – عليه وعليهم
الصلاة والسلام – للربوبيّة تعدى الصور ، وتعدى المشاهدات ، وتعدى التصوّرات :
" إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ
حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ " ، توجّه للخالق الذي عرفَه
ببذرة الإيمان فيه وحدَه دون أي تصوير ولا إشراك ولا شائبة ، وقال : "
وَكَيَفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم
بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا " ، إنه رفض الإشراك
لأنه ما نزل به سلطان من عند الله ، ولكنّه لم يرفُض الإيمان بالله بشكلٍ ؛ لأن
هذا ما هداه الله إليه ببذرة الإيمان التي بذرها فيه – وهي لا تعدِم عقلاً
ومنطِقًا فطريًّا – .
الخليل لم يصوّر الله ، ولم يحدّد له مكانًا
. إنّه اهتدى إليه وانبعثتْ في نفسه إرهاصات تعظيمه وتوقيره من خلال خلقِه ، وقبلَ
ذلك من خِلال بذرة الإيمان التي خلفها الله في نفس كل آدميّ مكلّف بأن يصلِح نفسه
حتى تنمو البذرة فيه ويهتديَ ، وإن أساء فهو المجنيّ عليه .
وإنّه – مع ذلك – ليس كلّ البشر وأصحاب
الرسالات - حتى السماويّة منها – على هذا التصوّر للربوبيّة .
إنّ من تشوّه عندهم تصور الربوبيّة وفهمها
قد فتحوا بابًا لكثيرٍ ممن فكّر وأبى عقلُه تسفيه وتسفيل الإيمان إلى مستوى دون ما
تهتدي إليه الفطرة .
هؤلاء الآبون قد انطلَقوا من مُنطلَق الخليل
– عليه الصلاة والسلام – ، رفضوا لأنفسِهم أن يصوّروا الربّ في آدميّ ، أو في
مخلوق صورتْه بعض الملل الشركيّة والفلسفيّة .
والذين لم يهتدِ منهم – وهؤلاء حسبما يظهر
كثُر – لم يعرفوا صورة الربّ عند المسلمين متبعي ملةِ إبراهيمَ والمقتفينَ أثرَها
، ولذا كانت الحسرةُ بعدم إيمانِهم ، ولجوئهم إلى الإلحاد والخلودُ إلى الطبيعة
وإلى هذا العالم الكائن الآن – والذي سوف يتبدّل بغيره يومًا ما – . وربما يكون
بعضُهم قد عرَفها – مع أني أشكّ ؛ لأنهم لو عرفوها لاعتنقوها – ولكن بذرة الإيمان
لم يُهيِّئْ لها الأحوال الصالحة لنموّها .
إنّ تصور الربوبيّة عند أهلِ الإيمان شديد
حاسمٌ في عدم التشبيه ولا التمثيل ، بل إنّه يؤمن بالأسماء ولكنه يحرّم التعرّض
للكيف والوصف ، فلا يد الله موصوفة ، ولا استواء الله مكيّف ، ولا ضحكه ولا تعجّبه
معروفان ، وإنّ التعرّض لوصف أو تكييف أيّ من ذلك محرّم ومخالِف لعقيدة هذه
الرسالة ، أو قل : مخالف لملّة إبراهيم ، تلك الملة التي عرفتِ الله فوقَ كل تصوير
وتوصيف .
وإنْ كان قائلٌ يقول : فلِمَ إذًا وصفَ الله
الذي تزعمون وجودَه بأوصاف شبيهة بأشياء مشاهدة عندنا معشرَ البشر – ما دام أنه
فوق التصورات والتخيلات – ؟! إذًا معتقدُكم لا يختلِف عن عقيدة الإغريق أو ألوهيّة
المسيح والثالوث وغيرها من الملل الجاهلية المخالِفة للعقل .
فإن الجواب يكون : لأنَّ الذي خلقنا وخلقك
هو الأعرف بما نفهَم به الأشياء ونتصوّرها حتى نصلَ للمقصود من الرسالة في شريعتها
ومقاصدِها المختلفة ، هو تودّد من ربنا وتألُّف ، وهو ترجمةٌ لحقيقة خلقه لنا
ومعرفته بنا وقربِه منا ، وفوق ذلك قد تكونُ فتنةً لأمثالك من الذين لم تراعَ فيهم
بذرةُ الإيمان بشكل يفتح لصاحبها باب الإيمان واليقين بالخالق ورسالته . ولكَ أن
تتأمَّل خِطاب الرب لموسى الكليم – عليه الصلاة والسلام – لتعرِف مظهرًا من هذا
التودد من الخالق لخلْقه . ثمّ إنّ قراءتَك للقرآن ولوصفِ الله لنفسه في كل الآيات
وكل مواضيعِها تعرِف لا محدوديّة الرب – سبحانه – وسَعَتَه وفوقيّته ، فهو يحتوي
كلّ الأحداث وكلّ العلم وكلّ الطبيعة ، ولا يخرجُ صغيرٌ ولا كبيرٌ عمّا وصفَ –
سبحانه وبحمده وتعالى – .
فأيّ عظمةٍ ورقيّ ترتقي إليه بالناس هذه
الملّة الروحانيّة الصافيّة ، التي لم تقبلْ لأيدي البشر أن تتدخّل في صورة
الربوبيّة وصفائها وكمالها الذي استودَع الكونَ بكل تجلّياتِه بعضًا من هذا وادّخر
كثيرًا .
" قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ
حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً " .
والله أعلم – سبحانه وبحمده – .
مكة –
18/9/1434هـ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق