المشاركات الشائعة

الخميس، 17 يوليو 2014

ملّة إبراهيم حنيفًا

باسم الله

ملَّةُ الخليل – عليه الصلاة والسَّلام –

     ما أبهاها من قصةٍ قصة إلهام الرب – سبحانه – لخليله وأبي أنبيائه إبراهيم – عليه وآله ومحمد وآله الصلاة والسلام – حقيقةَ التوحيد وحقيقةَ الربوبيّة !

     إنّها نموذجٌ لصياغة الإيمان الحق .

     وإنّها لضياءٌ وكشْفٌ لكثيرينَ سفّلوا مفهوم الإيمان وسفّهوه بجهل .

     إنّها ضرورةٌ قصوى لكل مسلمٍ في المقام الأول ، ولكل داعيةٍ إلى الإيمان بالرسالة الخاتَمة ، وإلى كل الناس حتى يفهموا هذه الرسالة .

     كانتِ بذرة الإيمان في خليل الرحمنِ في أرضٍ خصبة قد سُقِيتْ – سقيا اللهُ أعلم بها – ، إلاّ أنّها كانت بلا شكٍّ في المكان الصالح وبشكلٍ اعتُنِيَ بها فيه .

     كانتِ البذرة هذه وآيةُ الله لدى البشر للدلالة عليه معتنًى بها ، وذلك على الرَّغم من رفض هذا الإنسان الصالح الحرِّ لما كان عليه قومُه وعلى رأسهم أبيه نفسه ، من وضعهم للإيمان – ذلك المعنى العظيم الرباني الإنسانيّ – في موضعٍ مسيء ، وضعوه لأصنامٍ صنعوها بأنفسهم بل وتأكدوا من أنها لا تستطيع دفع الضرّ عن نفسها فضلاً عن غيرها ، فهي حتى ليس فيها روحٌ ! وهل هذه المخلوقات إلا بالروح ؟! ولولا الرُّوحُ ما الحياةُ وما السموّ وما الرقيّ ؟َ!

     إنّ هذا الرفض للواقع غير المتلائم مع النفس والفطرة – ولا نقول غير المتلائم مع المنطق ؛ فالإيمان لا يتطلّب المنطق في أساسه بل الصدق مع النفس والمعرفة بالحقيقة وهداية الله – إن هذا الرفض هو عينُ الحرّيّة ، وعينُ الاستقلال ، وعينُ القوّة .

     وإنّ هذه المفاهيمَ الثلاثَ يتحجج بها كثيرونَ ملحدون ، ولكنّ القاصمَ فيهم هو عدم استماعِهم لنداء فطرتِهم وأرواحهم التي سكنتْ أجسادهم كأضياف عابرين ، ولكنّ كثيرًا منهم لم يصل لهذه الحقيقة . وإن تجربةً واستقصاءً من واحدٍ منهم للأديان والرسائل السماويّة قد كان يكفي لاهتدائهم لو أراد الله ، ولكنّ كل هذا مرهونٌ ومعقودٌ بأن الله يهدي إليه من يشاء ومن ينيب ، وهو مسببّ الأسباب ومصرّف الآيات جميعًا .

     إنّ مفهوم إبراهيم الخليل – عليه وعليهم الصلاة والسلام – للربوبيّة تعدى الصور ، وتعدى المشاهدات ، وتعدى التصوّرات : " إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ " ، توجّه للخالق الذي عرفَه ببذرة الإيمان فيه وحدَه دون أي تصوير ولا إشراك ولا شائبة ، وقال : " وَكَيَفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا " ، إنه رفض الإشراك لأنه ما نزل به سلطان من عند الله ، ولكنّه لم يرفُض الإيمان بالله بشكلٍ ؛ لأن هذا ما هداه الله إليه ببذرة الإيمان التي بذرها فيه – وهي لا تعدِم عقلاً ومنطِقًا فطريًّا – .

     الخليل لم يصوّر الله ، ولم يحدّد له مكانًا . إنّه اهتدى إليه وانبعثتْ في نفسه إرهاصات تعظيمه وتوقيره من خلال خلقِه ، وقبلَ ذلك من خِلال بذرة الإيمان التي خلفها الله في نفس كل آدميّ مكلّف بأن يصلِح نفسه حتى تنمو البذرة فيه ويهتديَ ، وإن أساء فهو المجنيّ عليه .

     وإنّه – مع ذلك – ليس كلّ البشر وأصحاب الرسالات - حتى السماويّة منها – على هذا التصوّر للربوبيّة .

     إنّ من تشوّه عندهم تصور الربوبيّة وفهمها قد فتحوا بابًا لكثيرٍ ممن فكّر وأبى عقلُه تسفيه وتسفيل الإيمان إلى مستوى دون ما تهتدي إليه الفطرة .

     هؤلاء الآبون قد انطلَقوا من مُنطلَق الخليل – عليه الصلاة والسلام – ، رفضوا لأنفسِهم أن يصوّروا الربّ في آدميّ ، أو في مخلوق صورتْه بعض الملل الشركيّة والفلسفيّة .

     والذين لم يهتدِ منهم – وهؤلاء حسبما يظهر كثُر – لم يعرفوا صورة الربّ عند المسلمين متبعي ملةِ إبراهيمَ والمقتفينَ أثرَها ، ولذا كانت الحسرةُ بعدم إيمانِهم ، ولجوئهم إلى الإلحاد والخلودُ إلى الطبيعة وإلى هذا العالم الكائن الآن – والذي سوف يتبدّل بغيره يومًا ما – . وربما يكون بعضُهم قد عرَفها – مع أني أشكّ ؛ لأنهم لو عرفوها لاعتنقوها – ولكن بذرة الإيمان لم يُهيِّئْ لها الأحوال الصالحة لنموّها .

     إنّ تصور الربوبيّة عند أهلِ الإيمان شديد حاسمٌ في عدم التشبيه ولا التمثيل ، بل إنّه يؤمن بالأسماء ولكنه يحرّم التعرّض للكيف والوصف ، فلا يد الله موصوفة ، ولا استواء الله مكيّف ، ولا ضحكه ولا تعجّبه معروفان ، وإنّ التعرّض لوصف أو تكييف أيّ من ذلك محرّم ومخالِف لعقيدة هذه الرسالة ، أو قل : مخالف لملّة إبراهيم ، تلك الملة التي عرفتِ الله فوقَ كل تصوير وتوصيف .

     وإنْ كان قائلٌ يقول : فلِمَ إذًا وصفَ الله الذي تزعمون وجودَه بأوصاف شبيهة بأشياء مشاهدة عندنا معشرَ البشر – ما دام أنه فوق التصورات والتخيلات – ؟! إذًا معتقدُكم لا يختلِف عن عقيدة الإغريق أو ألوهيّة المسيح والثالوث وغيرها من الملل الجاهلية المخالِفة للعقل .

     فإن الجواب يكون : لأنَّ الذي خلقنا وخلقك هو الأعرف بما نفهَم به الأشياء ونتصوّرها حتى نصلَ للمقصود من الرسالة في شريعتها ومقاصدِها المختلفة ، هو تودّد من ربنا وتألُّف ، وهو ترجمةٌ لحقيقة خلقه لنا ومعرفته بنا وقربِه منا ، وفوق ذلك قد تكونُ فتنةً لأمثالك من الذين لم تراعَ فيهم بذرةُ الإيمان بشكل يفتح لصاحبها باب الإيمان واليقين بالخالق ورسالته . ولكَ أن تتأمَّل خِطاب الرب لموسى الكليم – عليه الصلاة والسلام – لتعرِف مظهرًا من هذا التودد من الخالق لخلْقه . ثمّ إنّ قراءتَك للقرآن ولوصفِ الله لنفسه في كل الآيات وكل مواضيعِها تعرِف لا محدوديّة الرب – سبحانه – وسَعَتَه وفوقيّته ، فهو يحتوي كلّ الأحداث وكلّ العلم وكلّ الطبيعة ، ولا يخرجُ صغيرٌ ولا كبيرٌ عمّا وصفَ – سبحانه وبحمده وتعالى – .

     فأيّ عظمةٍ ورقيّ ترتقي إليه بالناس هذه الملّة الروحانيّة الصافيّة ، التي لم تقبلْ لأيدي البشر أن تتدخّل في صورة الربوبيّة وصفائها وكمالها الذي استودَع الكونَ بكل تجلّياتِه بعضًا من هذا وادّخر كثيرًا .

     " قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً " .

     والله أعلم – سبحانه وبحمده – .



مكة – 18/9/1434هـ

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق