المشاركات الشائعة

الخميس، 3 يوليو 2014

حبّ النفوذ والتأثير

بسم الله الرحمن الرحيم

حُبّ النّفوذ والتَّأثِير

     الحمد لله كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه ، تفرّد بالمُلكِ والتدبير ، والكبرياء والعظمة ، فمن نازعه فيهما قد سلكَ الشطط في شانِه ، وتبيّن ضلاله وحقيق خُسرانِه . والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالَم إنسه وجانّه ، قصدَ التذلُّلَ لربّه واختار العبوديّة وابتعَد عن حبّ الترؤُّسِ ومظانِّه ، وعلى آله وصحبه والذين اتبعوهم بإحسان إلى يوم الحِساب وأوانِه .
     أما بعدُ ..
     فحبّ النفوذ والتأثير على المُحيط والمخالِط والقرين شيءٌ قد طُبِع في ابنِ آدمَ ، ولم يزلْ يُعمل بمقتضاه – قصد أو لم يقصِدْ – منذ الأزل وحتّى عصرِنا هذا ، فقد كانت هذه الصّفة ممّا لم تقدِر عليه مظاهر التقنية الحديثة ووسائل الاتصال المتطورة أن تمحوَه أو تبدّلَه . فصار حب المرء لبسط نفوذ وتوسع تأثيره يظهر في الحياة الطبيعيّة الاجتماعية المتوارثة منذ القِدم كما يظهر في ميادين التقنية الحديثة ووسائلها المعروفة – كمواقع التواصُل الاجتماعيّ مثلاً – .
     وحبّ النفوذ وبسطِه هذا هو مُنطلَق لكثير من الأفعال والتصرُّفات التي عظُم شأن بعضها ، وفي المقابل من ذلك صغُر شأن البعض الآخر . فحروب هيجاء قامتْ به ، وتاريخٌ صُنِع من جرّائه – جراء هذا الحبّ – ، وصناعات وحضارات استُحدِثتْ لأجله ، وأُسَر به قامتْ دعائمها ، وأخرى بها قُوضَ بنيانها ، وعلاقات وأواصرُ استحكمت حلقاتُها ، وأخرى نَبَتَ عليها النفور والأنفة فضعفت وتفكّكت آصارُها .
     فالناظر في هذا الطبـــــــع ينظر في طبع إنسانيّ أصــــــــــــــيل مكين في النفس البشريّة – وتشاركه فيه المخلوقات الأخرى – ، يعمَل فيه عملاً ليس يخفى من سيرته وأفعالِه ، ويظهَر جليًّا منه ، فتراهُ تارةً يدعو لفكرةٍ يتبنّاها ، وتارةً يسوِّق نفسَه ليخلُق لها الاحترام والإجلال ، وتارةً يستلفِتُ الأنظارَ والإعجابَ والشُّهْرة .
     فبهذه الورقات نحن بصدَد مداولة هذا الطَّبْع ، فنبحث في أصله ، ومظاهِره ، ولطائفه ، ونظرة الشرع إليه وحكم الحقّ والمنطِق في شأنه . وسندخل من هذا الباب إلى كافّة مناحي الحياة ومظاهرها ، كما أنّ هذا الطَّبْع يدخل في كثير من تصرفات الناس وأفعالهم وأمورهم .
     ونسأل الله في كل حال العلمَ النافع والرزقَ الطيب والعمل المتقبّل ؛ إنه ذو الجلال والإكرام ، ونعوذ به من علم لا ينفع ومن قلب لا يخشع ومن عمل لا يُرفَع ومن دعوة لا يُستجابُ لها ، وهو وليّ التوفيق وذو الفضل العظيم .
     والله أعلم ، وصلى الله على سيدنا وإمامنا محمد بن عبد الله ، وعلى آله وصحبه والذين اتبعوهم بإحسان – إلى يوم الدين .

بسّام بن عصام بن محمّد يغمور
مكة - 6/12/1433هـ

 





~*~*~*~*~*~*~*~


المواضيع :
(1-5) أصلُ حب النفوذ والتأثير
(2-5) مظاهر حبّ بسط النفوذ
(3-5) خطورة اتساع مظاهر النفوذ والتأثير
(4-5) لكيْ لا يكثُر الخبث
(5-5) خِتام



(1-5) أصلُ حبّ بسط النفوذ والتَّأثِير :
     المتفكّر في منشأ حب بسط النفوذ في النفوس ، يجد نفسَه متوقفًا على أمور ، قد لا يخرج منشأُ هذا الطبع من أحدها :
-       غريزة حب التقدير والتوقير ، فإن المرء إذا كان على سَمت وطريقة ومذهب ، أو كان معتقدًا لفكرة معينة ، أو توصل إلى شيء بجهده وتعنّيه – فإنّه يعزّ عليه أن يبقى هذا دفينَ نفسه وحبيس جنبيْه وفكرِه وحده ، فتراه ينهض لنشرِه وتعزيزه وبثّه في المجامِع والأحاديث والحوارات . وما هدفُه من هذا إلا بعض حاجات في نفسه ، منها ما تخلقُه هذه الغريزة – حبُّ أن يرى غيرَه يثني عليه به ، ويعترِف بفضله وصدقه ومكانته ، وحبَّذا لو رآهم يعملون به مقتنعين به ؛ فهذا قمّة التأييد والنصرة والموافَقة .
وهذا في مرحلة من المراحل يبث في نفسه طمأنينة واستقرارًا بأنّ ما هو عليه وما هو معتقدُه صحيحٌ وحقّ وصوابٌ ، لم يكن مخطئًا حينما عمِل به وعاشَ عليه ودعا إليه ، وهذا غايةُ كلّ إنسان ، بل لو تيقّن من هذا إنسان وتأكد من أن مذهبَه وعملَه وطريقتَه في العيش هي الطريقة الحق فهو لا يأبَه بعدئذ من أي حادث يحدث له أو عاقبة يصير إليها ؛ فما الاضطرابات التي تعرض للإنسان والتقلُّبات في كثير منها إلا من جَرّاء شكّ في نفسه يخالجه حينًا ويوسوس له ويخوفه أنّ طريقَه ليس الطريق المقصود .
-       غريزة العمل على البقاء ، فإن أحدهم إذا كان على الصفة التي وصفناها في الفقرة السابقة ، فإن أحد ما يدفعُه إلى بسط نفوذه ونشر فكره وطلب تأييد مذهبه – هو خوفُه وحذرُه من أن يأتيَ زمانٌ يذهب وينتهي فيه بموت أو ضعْف أو تهميش ، أو أن يذهب فيه فكره ومذهبه بنسيان أو غيره من العوارض .
وهذه الغريزة لها ما يوازيها ويسير معها في طريقتها ، فإن الذي يجعل الإنسان يحبّ الذرية والنسل يشاكل ويحاكي هذا الذي يجعله حذرًا من ضياع سَمته وطريقته وفكره ، فهو يتزوّج ويعمل على التناسل ويجتهد في تحصيل أسباب هذا ؛ ليخلّف وراءَه من يحمل اسمَه وذكراه ، وهو بالموازي لهذا ينشر فكره وطريقتَه ويبسُط نفوذه ويستجلِب التأييد له بشتى الطرق الظاهرة والباطنة قاصدًا بسط نفوذه بشكل مباشر أو بشكل غير مباشِر ، والغاية في الشكلَين واحدة .
-       التجرّد للحقّ وحدَه ، وهذا لا يصل إليه إلا من تغلّب على حبّه لحظِّ نفسِه ، ولم يقصِد من نفوذه إلا بسط ميزان الحقّ والعدْل والطريقة المستقيمة وتمكينها بين الناس ؛ حتى لا يبغيَ قويّ ذو نفوذ على ضعيف مغمور قليل الرهط والنادي[1] .
وهذا المُنطلَق هو منطلق الأنبياء والمرسلين ، والخلفاء الراشدين ، والمُصطفَيْن من الناس للخلافة بعد أنبيائهم من عُلَماء ودُعاة ممّن منّ الله عليهم فخلصهم من حظوظ أنفسِهم فانبروْا لإعلاء كلمة الله فقط لا لإبقاء ذكر وذياع صيت ، وليس كلّ من دعا إلى الله بظاهره هو كذلك في باطِنِه ، ولكن النوايا على كلّ حال محِلّ حكم عالم الغيب الذي لا يظهر على غيبه أحدًا إلا من ارتضى من رسول .
وهؤلاء حرارتُهم في دعوتهم وجِهادهم أشدُّ وأكثر انضباطًا في آنٍ واحد من حرارة وحرقة الساعي إلى بسط نفوذه لأجل نفسِه أو فكره وطريقته غير المؤيّدة بكلمة السماء وخبرِها . ولو تجابهتِ الدعوتان لغلَبت دعوةُ الحق المتجرّد من حظوظ النفس – إذا كان التجرّد صادقًا – ، " كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ " ( البقرة - 249 ) ، وإن تأخر النصرُ ؛ فالعاقبةُ لصاحب الهدف النبيل والتقوى ، والعاقبة تكون له ظاهرًا أو باطنًا على السواء عاجلاً أو آجلاً .
~
(2-5) مظاهر حبّ بسْط النُّفُوذ :
     مع شياع ظاهرة التواصل ونمائها نوعيًّا في هذه الأيام ، فإن المظاهر التي تظهر فيها الطباع الإنسانية أصبحت أوضح وأبيَن . وهذا ينطبق على هذا الطبع الذي نحن بصدده .
     ولنا أن نبدأ بالمظاهر القديمة قبلَ المظاهر الحديثة كنوعٍ من الترتيب .
     من المظاهر القديمة :
     الميل إلى الأطفال : فالميل إلى الأطفال والميل إلى محادثتهم ومداعبتهم والإقبال عليهم أمر بَدهيّ ليس محِل استغراب أو استهجان ، ومن الأسباب التي قد تحتــــــــــــــــــــــــملها هذه النزعة إلى الإقبال على الأطفال حبّ بسط النفوذ ( الذي من أسبابه ودوافعه ما قد ذُكِر في البند السابق ) . ويدخُل حبُّ النفوذ في هذا المظهر من حيثُ أنّ هذا الصغير الذي ما زال في طَور التشكُّل والعجْن أكثر تقبُّلاً لكلّ ما يصادفه أو يُفرَض عليه مهما كان ، فهو يتقبّله على عِلَله ولو بعد حين . فتجد المرء لا يحب صحبته أحدٌ من الناس ، ولكنّه مع ذلك يُقبِل على هذا الطفل الصغير ويؤمّل منه القَبولَ لبراءته وفطرته .
     وهذا النوع من الميْل يظهر كذلك عند الفئة الأخيرة من الساعين إلى بسط النفوذ – وهم المتجرّدون للدعوة – ، فهُمْ يقدّرون هذا الطبع في الطفل ويعلمون تركيبه فيه ، فيستغلُّونه ويطبَعونه على طريقتهم ومذهبهم وفكرهم . وما هذا إلا عمل المؤسّسات التعليميّة والتربويّة بعينه .
     السعي إلى الشُّهرة والرِّياسة : تتعدّد صُوَر السعي إلى الشهرة ، فمن متبعي مقولة " خالفْ تُعرفْ " إلى المتعالمين مُدّعي العلم والمعرفة إلى المتسلّلين عن طريق غرائز النّاس والمصالح المحضة . وهذا هو ذاتُه عمل كثير من الشّركات ، وكثير من رجال الإعلام من كافة المجالات . ومن هؤلاء من اشتُهِر فأفسد وأضلّ وأساء استخدام الشُّهرة والصيت ، ولا عجبَ إن كانت هذه نهاية من سعى إلى الشُّهرة لأجل نفسِها فقط ، فهو لا يُريدُ إلا الشُّهرة ؛ فهو فارغٌ من الهدف والغاية ، وما أشدَّ إغراء الظهرِ المكشوفِ للطاعنين والماكرين . أمّا من قصدَ الشهْرة لأجل بضاعةٍ عندَه صالحةٍ لمجتمعِه وليست تتوفّر عند غيرِه ، فهذا حريٌّ به إذا احتاج الشهرة ثم اشتُهِر لأجل هذا الغرض لا لغيره – حريٌّ به أن يرعى مسؤوليّة ذياع صيتِه ونفوذ كلمته وأمره وألا يستعمل منها إلا ما كان في مصلحة نفسه ومصلحة مجتمعه وأهله ، وهذا مثَل الفريق الأخير من الساعين إلى النفوذ .
     ومن الساعين إلى النفوذ بوساطة الشهرة ، نجد المتنبِّئين والدجالين والكذابين في القديم ، ونجد الشعراء والإعلاميين والقنوات الإعلامية قديمًا وحديثًا ، المصلح منها والمفسد ، ونجد الأُمراء والدُّوَل قديمها وحديثها بشتى صورها .
     من المظاهر الحديثة :
     نكتفي بذَينِكُم المثالَين العامَّين من مظاهر السعي إلى النفوذ التي كانت في القديم ومثلها في الحديث ما زال جاريًا . أما المظاهر الحديثة التي استُحدِثَتْ مع استحداث وسائل الاتصال الحديثة ، فمنها :
     الاستكثار من المتابعين : وهذا أمرٌ غُسِلتْ منهُ الأيدي وقُضِي في حكمه ؛ فهو معروف مشهور لدى كلّ من يتابع وسائل الاتصال الحديث أو مواقعه الإلكترونيّة ، فتجِده يسعى إلى تكثير متابعيه بشتى السُّبُل ، فمن إضافات عشوائيّة جماعيّة إلى قائمة الأصدقاء ، إلى متابَعة ما هبّ ودبّ من الحسـابات على موقع المغرد ( twitter ) مثلاً ، ومثلُه حاصلٌ أيضًا على اليوتيوب ( Youtube ) وربما البرنامج المسمّى " كِيك – keek " – كما يظهر من السّباق على إبداء الإعجابات للمقاطع والتعليقات والاشتراك في القنوات ، والتفاخُر بكثرة المشتركين والمُعجَبين ، حتى صار سباقًا محمومًا بين رُوّاد تلك المواقع ، فهو من أظهر ما يكون لطبع حب توسيع وبسط النفوذ والتأثير .
     والمتأمّل في سبب هذا السباق نحو اتساع النفوذ والتأثير يجد أن من أسبابه الجوهريّة – بشكل رئيس – ذاك السّبب الأوّل الذي ذكرناه في أصل حب بسط النفوذ ، وهو غريزة البحث عن التقدير والتوقير ، وفي أحيان يكون السبب الثاني ، وفي أحيان الثالث .
     والسبب في هذا التبايُن في الدوافع والأسباب أنّ وسائل التقنية الحديثة عُمومًا هي بمثابة كوب فارغ يملأه باللبن من يشاء ، ويملأه بالماء من يشاء ، ويملأه بغير ذلك من يشاء ، وهذا مضطرد في كل وسائل التقنية الحديثة ، وهي – عمومًا – لا تعمل إلا أن تزيد – كما قلنا – من ظهور وبروز الظواهر الاجتماعيّة والإنسانيّة الطبيعيّة[2] ، فكلٌّ يغنّي على ليلاه ، وكلُّ إناء بما فيه ينضح ، وليس شيءٌ أظهرَ لحقيقة الطبع من الفراغ ؛ إذ الفرصةُ سانحة لكلّ من شاء أن يفعلَ ما شاء .
     التَّنافُس التجاري التقني : هذا التَّنافُس قد يكون من أوضح المظاهر في السعي إلى بسْط النفوذ ، وهو في الآوِنة الأخيرة أظهر وأوضح بعد الثورات الصّناعيّة والاتساع الكبير في التجارة والصناعة والتهافُتِ على اقتناء أحدث التقنيات ، وصخب الإعلانات التجاريّة المحرضة على الاستهلاك باستمرار دونما هدوء أو توقُّف .
     وهو يندرج تحت الفئة الأولى من الدوافع إلى السعي إلى بسط النفوذ ، وتارةً تحت الفئة الثّانية ، وأما الفئة الثالثة فمن النّادر أن يندرج هذا النوع تحتها – خاصّةً إذا كنا نتحدث عن التقنية الحديثة وآلاتها – .
~
(3-5) خُطورَة مظاهِر اتساع النفوذ والتأثير :
     الخطُورة تكمُن في مظاهر اتساع دائرة تأثير الفرد الواحد في العصر الحديث أكثر مما كانت في العصر القديم ، ففي القديم كانت له ضوابطُه وشفافيّتُه ووضوحُه ، وأما في الحديث من الغُموض والتستُّر والخِداع ما لم يكن قبلُ .
     وخُطورة أيّ نفوذ أو تأثير تكمُن في تمكُّن غير الأكفاء منه ، ويكفي أنّ أميرًا على بلد إن أصلح النية والسيرة في رعيتِه حصلت البركة لهمْ ولبلدهم ، وإن أضمَر الشرّ ونواه ففي ذلك بوار أرضه وفسادها .
     ففي الآن الأخير صار من لم يصل إلى العشرينَ من عُمُره ذا نفوذ يوازي ويحاكي نفوذ صاحب الخمسينَ عامًا وله من الخبرة والحكمة ما ليس لذاك الصغير . وبالمثل ، فقد صار الفاجر الماجِن الذي ليس له من التقوى ذاك النصيب له من النفوذ ما للعبد التقيّ القائم بكتاب الله وسنة رسوله – صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم – ، وربما فاقه في اتساع دائرة نفوذ وتأثيره ، وهذا إن كان فهو تصديق لخبر المصطفى – صلى الله عليه وآله وسلم – بنطق الرويبضة آخرَ الزمان .
     والفاسد في نفسه إن صارت له القدرة على التأثير والنفاذ كان من أخطر الأمور على مجتمعه ، وإن ذلك لمن أسباب كثرة الخبث ، وكثرةُ الخبث مؤذنة بالشر على المجتمع ؛ ففي الحديث " أنّ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – دخل يومًا على زينبَ بنتِ جحش – رضي الله عنها – فزِعًا يقول : " لا إله إلا الله ، ويلٌ للعربِ من شرٍّ قد اقترب ، فُتِح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثلُ هذه " ، وحلق بإصبعيه الإبهام والتي تليها ، قالت زينب بنت جحش : يا رسولَ الله ، أفنهلِك وفينا الصالحون ؟ قال : " نعم ، إذا كثُرَ الخبث " . " ( البخاري - 7135 ) .
~
(4-5) لكيْ لا يكثُرَ الخبث :
     إذا علِمْنا أنّ التأثير والنفوذ متاحان لكلّ من يطلُبهما من طريقهما الصحيح ، وأنّ المفسد وغير الصالح للتأثير قد يمسك بزمام التأثير والنفوذ ويقود السفينة ، وجب على الناس أن يسلُكوا الطُّرُق التي تحول بين كل من هو على تلك الصفة وبين أن يصل إلى موقع التأثير ، أو – إن وصل فعلاً – أن تحول بينه وبين استمراره في موقعِه وقيامه بدور التأثير والقيادة .
     وفي الوقت الحالي تكون مقاوَمة أمثال هذا الفاسد الساعي إلى النفوذ والتأثير بأمور بعضُها جليل واضح ، وبعضُها دقيق خفيّ قد لا يفطن له كثير ، فمن ذلك :
·       مقاومة الفاسدين الساعين إلى النفوذ من بداية شروعهم في طلب النفوذ والحلول في موقِع التأثير ؛ فإن من الأدواء والعِلَل التي تصيب المجتمع أن تتغافَل عن ظواهرَ سلبيّة وتهملَها كسلاً عن الإنكار والمقاومة والتصحيح أو ظنًّا بقلّة الأهمية والخُطورة ، ثم يفاجأ بتلك الظواهر السيّئة الصغيرة سابقًا قد كبُرتْ وحلت في النفوس والقُلوب وأُشرِبَتْها – كما أُشرِب بنو إسرائيل العِجْل في قلوبهم – والعياذ بالله – –  ، ومن هذا البيت المشهور :
كلُّ الحوادثِ مبداها من النَّظَرِ *** ومُعظَمُ النارِ منْ مستصغَرِ الشَّرَرِ
وإن النظر من أقرب مداخل القلبِ نفاذًا إليه وتأثيرًا عليه ، ومن طريف ما هو مشهور ما قيل أيضًا : " كثرة المساس تميت الإحساس " ، و" كثرة الضغط تولّد الانفجار " .
·       عدم الانخداع بالمظاهر والانطباعات الأوليّة ؛ فلأن العقلَ قاصرٌ فهو يسعى إلى إطلاق الأحكام بأقصر الطرق والتشبُّث بأقرب الأفكار المتوفّرة أمامه حتى يرسوَ على برّ ويستقرّ ، ولكنّ مسألة الانطباع الأوّل باتتْ سهلة المنال وقريبةَ الاستغلال ، فكلُّ من أراد التسويق لنفسه أحسن الورود والدخول في البداية ، حتى يوطّدَ له الأمور ، فإذا توطّدت أبدى نفسَه على حقيقتها ، وحينئذ تصعُب إعادة النظر ومراجعة الأحكام وتغيير الواقع ، وأمثلة هذا باتتْ جليّةً جدًّا لكل ناظر ( إعلاميًّا في الوسائل القديمة والحديثة – كبرامج اليوتيوب وغيره – ، ومشاريعَ على أرض الواقع قد تكون عـــــــــــــــــمرانية أو تربوية أو ثقافية أو تجاريّة أو نحو ذلك ) .
·       اتّحاد الكلّ ضدّ الفاسد ؛ فإن من العوائق في هذا الطريق أنْ يجد صاحب النفوذ الفاسدُ من يؤيّده ويبدي به إعجابه واستحسانه ، فهذا يعطّل مسير المغيّرين وكذلك يَغُرّ هذا الفاسد ليمضيَ في سبيله وطريقته ، وصدق الله كل الصدق إذ يقول : " وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ[3] " ( الأنفال - 46 ) .
تأبى الرِّماحُ إذا اجتمعْنَ تكسُّرًا *** وإذا افترقْنَ تكسّرتْ آحادَا
·       إحياء الهِمَم للنّهوض بوجه الفاسد ؛ فإنّ أحكمَ الحكماء وأعقلهم وأبصرهم بالأمور ليس ينفعُه ذلك إن لم يكن قوي العزيمة مقدامًا ، ومنه دعاء النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – في صلاته : " اللهمّ إني أسألُك الثباتَ في الأمر ، والعزيمةَ على الرُّشد ، وأسألك شكر نعمتك ، وحُسن عبادتك ، وأسألك قلبًا سليمًا ، ولسانًا صادقًا ، وأسألك من خير ما تعلم ، وأعوذ بك من شرّ ما تعلم ، وأستغفرك لما تعلم " ( صححه الألباني لغيره – مشكاة المصابيح ، 915 ) .
إذا كُنتَ ذا رأيٍ فكُنْ ذا عزيمةٍ *** فإنَّ فسادَ الرّأيِ أن تتردَّدَا
وكذلك لا ينفَع أن يعلمَ ويكره الناس هذا الفاسد حينما وصلَ إلى محِل النفوذ والتأثير ، لا ينفع ذلك إلا بعزيمة تذهب شرّه وضرره عنهم .
·       النيّة الصالِحة الواضحة بابتغاء وجه الله – عز وجل – والأمر بالمعروف والنهيِ عن المنكر والصدقُ في كل ذلك واليقين في نجاحه وإحســـــان الظنّ بالرب كما يليق به – هو سر نجاح كل ذلك على الحقيقة وسِرُّ وثمرته .
~
(5-5) خِتام :
     انظرْ وتأمّل في دوافع السعي إلى توسيع النفوذ والتأثير ، وانظر وتأمّل في مظاهره قديمًا وحديثًا ، ثمّ انظر في محيطك ومن حولَك ؛ فإذا وجدتَ فيهم من سعى إلى التأثير والنفوذ في حيّزه – صغيرًا كان أو كبيرًا – فانظر إلى هدفِه وغايته ، فإن وجدتَه مبتغيًا خيرًا وإصلاحًا ومعروفًا ، فادعمْه وشجّعه ولا تأنفْ أن تكون له تابعًا ، وهذا صلاحُه ونفوذه ينفعه وينفع مجتمعه ويقـــــــودهم جميعًا إلى محيط صحّيّ مستنير ، وسيكون لك سبق أجر وفضْلٍ في هذا ؛ إذ أنت دعمتَه بحكمتك وعلمك لنبيلِ هدَفِه .
     وأما إن وجــــــدتَه أهـــــــــــــــــدافَه أنانيةً أو فاسدة مضللة ، فكن محاربًا له ظاهرًا وباطنًا مباشرةً أو بغير مباشرة ، فهو – ما دام على هذه الحال – تفاحةٌ فاسدة ، إن أُهمِلَت أفسدت ما حولها وكانت عنصر هدم وتضييع للبيئة والمحيط .
     والله أعلم ، وهو الموفّق والهادي والمسدد .
~
ما كان من صواب وبيان وحقّ فمن فضل الله وحدَه محضًا وصِرفًا ،
وما كان من خطأ وباطل وسوء فمني نفسي أو من الشيطان – نعوذ بالله منه – ،
والله – سبحانه – أعلم .
نسأل الله العزة والنصرة لدينه والقائمين به ، وأن يكفينا شرّ كل من أفسد وكل من اعتدى وكل من عاند وتجبّر ،
وأن يستعملَنا ولا يستبدلَ بنا .
والحمد لله رب العالمين ، وصلى الله وسلم وبارك وزاد على عبده ورسوله محمد بن عبد الله وآله وصحبه والذين اتبعوهم بإحسان – إلى يوم الدين .
.. ولا حول ولا قوة إلا بالله ..




[1] من قوله – تعالى – على لسان شعيب – عليه الصلاة والسلام – : " أرهطي أعزّ عليكم من الله " ، وقولِه : " فليدعُ ناديَه " .
[2] إلا إن كان منشئوها أنشأوها لأهداف محدّدة ولكن لم يعلنوها للمستخدِمين ، وهذا مدعاةُ للشك في كثير من التقنيات والمواقع الشبكيّة مجهولة الأهداف .
[3] الفشل : الضعف والتراخي ، والريح في الآية : بمعنى الغلبة والقوة ( لسان العرب ) .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق