بسم
الله الرحمن الرحيم
حُبّ النّفوذ والتَّأثِير
الحمد لله كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم
سلطانه ، تفرّد بالمُلكِ والتدبير ، والكبرياء والعظمة ، فمن نازعه فيهما قد سلكَ
الشطط في شانِه ، وتبيّن ضلاله وحقيق خُسرانِه . والصلاة والسلام على المبعوث رحمة
للعالَم إنسه وجانّه ، قصدَ التذلُّلَ لربّه واختار العبوديّة وابتعَد عن حبّ
الترؤُّسِ ومظانِّه ، وعلى آله وصحبه والذين اتبعوهم بإحسان إلى يوم الحِساب
وأوانِه .
أما بعدُ ..
فحبّ النفوذ والتأثير على المُحيط والمخالِط
والقرين شيءٌ قد طُبِع في ابنِ آدمَ ، ولم يزلْ يُعمل بمقتضاه – قصد أو لم يقصِدْ –
منذ الأزل وحتّى عصرِنا هذا ، فقد كانت هذه الصّفة ممّا لم تقدِر عليه مظاهر
التقنية الحديثة ووسائل الاتصال المتطورة أن تمحوَه أو تبدّلَه . فصار حب المرء
لبسط نفوذ وتوسع تأثيره يظهر في الحياة الطبيعيّة الاجتماعية المتوارثة منذ القِدم
كما يظهر في ميادين التقنية الحديثة ووسائلها المعروفة – كمواقع التواصُل
الاجتماعيّ مثلاً – .
وحبّ النفوذ وبسطِه هذا هو مُنطلَق لكثير من
الأفعال والتصرُّفات التي عظُم شأن بعضها ، وفي المقابل من ذلك صغُر شأن البعض
الآخر . فحروب هيجاء قامتْ به ، وتاريخٌ صُنِع من جرّائه – جراء هذا الحبّ – ،
وصناعات وحضارات استُحدِثتْ لأجله ، وأُسَر به قامتْ دعائمها ، وأخرى بها قُوضَ
بنيانها ، وعلاقات وأواصرُ استحكمت حلقاتُها ، وأخرى نَبَتَ عليها النفور والأنفة
فضعفت وتفكّكت آصارُها .
فالناظر في هذا الطبـــــــع ينظر في طبع
إنسانيّ أصــــــــــــــيل مكين في النفس البشريّة – وتشاركه فيه المخلوقات
الأخرى – ، يعمَل فيه عملاً ليس يخفى من سيرته وأفعالِه ، ويظهَر جليًّا منه ،
فتراهُ تارةً يدعو لفكرةٍ يتبنّاها ، وتارةً يسوِّق نفسَه ليخلُق لها الاحترام
والإجلال ، وتارةً يستلفِتُ الأنظارَ والإعجابَ والشُّهْرة .
فبهذه الورقات نحن بصدَد مداولة هذا الطَّبْع
، فنبحث في أصله ، ومظاهِره ، ولطائفه ، ونظرة الشرع إليه وحكم الحقّ والمنطِق في
شأنه . وسندخل من هذا الباب إلى كافّة مناحي الحياة ومظاهرها ، كما أنّ هذا
الطَّبْع يدخل في كثير من تصرفات الناس وأفعالهم وأمورهم .
ونسأل الله في كل حال العلمَ النافع والرزقَ
الطيب والعمل المتقبّل ؛ إنه ذو الجلال والإكرام ، ونعوذ به من علم لا ينفع ومن
قلب لا يخشع ومن عمل لا يُرفَع ومن دعوة لا يُستجابُ لها ، وهو وليّ التوفيق وذو
الفضل العظيم .
والله أعلم ، وصلى الله على سيدنا وإمامنا
محمد بن عبد الله ، وعلى آله وصحبه والذين اتبعوهم بإحسان – إلى يوم الدين .
بسّام بن عصام بن محمّد يغمور
مكة - 6/12/1433هـ
|
~*~*~*~*~*~*~*~
المواضيع :
(1-5) أصلُ حب
النفوذ والتأثير
(2-5) مظاهر حبّ
بسط النفوذ
(3-5) خطورة اتساع
مظاهر النفوذ والتأثير
(4-5) لكيْ لا
يكثُر الخبث
(5-5) خِتام
(1-5)
أصلُ حبّ بسط النفوذ والتَّأثِير :
المتفكّر في منشأ حب بسط النفوذ في النفوس ،
يجد نفسَه متوقفًا على أمور ، قد لا يخرج منشأُ هذا الطبع من أحدها :
- غريزة حب التقدير والتوقير
، فإن المرء إذا كان على سَمت وطريقة ومذهب ، أو كان معتقدًا لفكرة معينة ، أو
توصل إلى شيء بجهده وتعنّيه – فإنّه يعزّ عليه أن يبقى هذا دفينَ نفسه وحبيس
جنبيْه وفكرِه وحده ، فتراه ينهض لنشرِه وتعزيزه وبثّه في المجامِع والأحاديث
والحوارات . وما هدفُه من هذا إلا بعض حاجات في نفسه ، منها ما تخلقُه هذه الغريزة
– حبُّ أن يرى غيرَه يثني عليه به ، ويعترِف بفضله وصدقه ومكانته ، وحبَّذا لو
رآهم يعملون به مقتنعين به ؛ فهذا قمّة التأييد والنصرة والموافَقة .
وهذا
في مرحلة من المراحل يبث في نفسه طمأنينة واستقرارًا بأنّ ما هو عليه وما هو
معتقدُه صحيحٌ وحقّ وصوابٌ ، لم يكن مخطئًا حينما عمِل به وعاشَ عليه ودعا إليه ،
وهذا غايةُ كلّ إنسان ، بل لو تيقّن من هذا إنسان وتأكد من أن مذهبَه وعملَه
وطريقتَه في العيش هي الطريقة الحق فهو لا يأبَه بعدئذ من أي حادث يحدث له أو
عاقبة يصير إليها ؛ فما الاضطرابات التي تعرض للإنسان والتقلُّبات في كثير منها
إلا من جَرّاء شكّ في نفسه يخالجه حينًا ويوسوس له ويخوفه أنّ طريقَه ليس الطريق
المقصود .
- غريزة العمل على البقاء
، فإن أحدهم إذا كان على الصفة التي وصفناها في الفقرة السابقة ، فإن أحد ما
يدفعُه إلى بسط نفوذه ونشر فكره وطلب تأييد مذهبه – هو خوفُه وحذرُه من أن يأتيَ
زمانٌ يذهب وينتهي فيه بموت أو ضعْف أو تهميش ، أو أن يذهب فيه فكره ومذهبه بنسيان
أو غيره من العوارض .
وهذه
الغريزة لها ما يوازيها ويسير معها في طريقتها ، فإن الذي يجعل الإنسان يحبّ
الذرية والنسل يشاكل ويحاكي هذا الذي يجعله حذرًا من ضياع سَمته وطريقته وفكره ،
فهو يتزوّج ويعمل على التناسل ويجتهد في تحصيل أسباب هذا ؛ ليخلّف وراءَه من يحمل
اسمَه وذكراه ، وهو بالموازي لهذا ينشر فكره وطريقتَه ويبسُط نفوذه ويستجلِب
التأييد له بشتى الطرق الظاهرة والباطنة قاصدًا بسط نفوذه بشكل مباشر أو بشكل غير
مباشِر ، والغاية في الشكلَين واحدة .
- التجرّد للحقّ وحدَه
، وهذا لا يصل إليه إلا من تغلّب على حبّه لحظِّ نفسِه ، ولم يقصِد من نفوذه إلا
بسط ميزان الحقّ والعدْل والطريقة المستقيمة وتمكينها بين الناس ؛ حتى لا يبغيَ
قويّ ذو نفوذ على ضعيف مغمور قليل الرهط والنادي[1] .
وهذا
المُنطلَق هو منطلق الأنبياء والمرسلين ، والخلفاء الراشدين ، والمُصطفَيْن من
الناس للخلافة بعد أنبيائهم من عُلَماء ودُعاة ممّن منّ الله عليهم فخلصهم من حظوظ
أنفسِهم فانبروْا لإعلاء كلمة الله فقط لا لإبقاء ذكر وذياع صيت ، وليس كلّ من دعا
إلى الله بظاهره هو كذلك في باطِنِه ، ولكن النوايا على كلّ حال محِلّ حكم عالم
الغيب الذي لا يظهر على غيبه أحدًا إلا من ارتضى من رسول .
وهؤلاء
حرارتُهم في دعوتهم وجِهادهم أشدُّ وأكثر انضباطًا في آنٍ واحد من حرارة وحرقة
الساعي إلى بسط نفوذه لأجل نفسِه أو فكره وطريقته غير المؤيّدة بكلمة السماء
وخبرِها . ولو تجابهتِ الدعوتان لغلَبت دعوةُ الحق المتجرّد من حظوظ النفس – إذا
كان التجرّد صادقًا – ، " كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً
بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ " (
البقرة - 249 ) ، وإن تأخر النصرُ ؛ فالعاقبةُ لصاحب
الهدف النبيل والتقوى ، والعاقبة تكون له ظاهرًا أو باطنًا على السواء عاجلاً أو
آجلاً .
~
(2-5)
مظاهر حبّ بسْط النُّفُوذ :
مع شياع ظاهرة التواصل ونمائها نوعيًّا في
هذه الأيام ، فإن المظاهر التي تظهر فيها الطباع الإنسانية أصبحت أوضح وأبيَن .
وهذا ينطبق على هذا الطبع الذي نحن بصدده .
ولنا أن نبدأ بالمظاهر القديمة قبلَ المظاهر
الحديثة كنوعٍ من الترتيب .
من المظاهر القديمة :
الميل إلى الأطفال : فالميل إلى
الأطفال والميل إلى محادثتهم ومداعبتهم والإقبال عليهم أمر بَدهيّ ليس محِل
استغراب أو استهجان ، ومن الأسباب التي قد تحتــــــــــــــــــــــــملها هذه
النزعة إلى الإقبال على الأطفال حبّ بسط النفوذ ( الذي من أسبابه ودوافعه ما قد
ذُكِر في البند السابق ) . ويدخُل حبُّ النفوذ في هذا المظهر من حيثُ أنّ هذا
الصغير الذي ما زال في طَور التشكُّل والعجْن أكثر تقبُّلاً لكلّ ما يصادفه أو
يُفرَض عليه مهما كان ، فهو يتقبّله على عِلَله ولو بعد حين . فتجد المرء لا يحب
صحبته أحدٌ من الناس ، ولكنّه مع ذلك يُقبِل على هذا الطفل الصغير ويؤمّل منه
القَبولَ لبراءته وفطرته .
وهذا النوع من الميْل يظهر كذلك عند الفئة
الأخيرة من الساعين إلى بسط النفوذ – وهم المتجرّدون للدعوة – ، فهُمْ يقدّرون هذا
الطبع في الطفل ويعلمون تركيبه فيه ، فيستغلُّونه ويطبَعونه على طريقتهم ومذهبهم
وفكرهم . وما هذا إلا عمل المؤسّسات التعليميّة والتربويّة بعينه .
السعي إلى الشُّهرة والرِّياسة :
تتعدّد صُوَر السعي إلى الشهرة ، فمن متبعي مقولة " خالفْ تُعرفْ " إلى
المتعالمين مُدّعي العلم والمعرفة إلى المتسلّلين عن طريق غرائز النّاس والمصالح
المحضة . وهذا هو ذاتُه عمل كثير من الشّركات ، وكثير من رجال الإعلام من كافة
المجالات . ومن هؤلاء من اشتُهِر فأفسد وأضلّ وأساء استخدام الشُّهرة والصيت ، ولا
عجبَ إن كانت هذه نهاية من سعى إلى الشُّهرة لأجل نفسِها فقط ، فهو لا يُريدُ إلا
الشُّهرة ؛ فهو فارغٌ من الهدف والغاية ، وما أشدَّ إغراء الظهرِ المكشوفِ
للطاعنين والماكرين . أمّا من قصدَ الشهْرة لأجل بضاعةٍ عندَه صالحةٍ لمجتمعِه
وليست تتوفّر عند غيرِه ، فهذا حريٌّ به إذا احتاج الشهرة ثم اشتُهِر لأجل هذا
الغرض لا لغيره – حريٌّ به أن يرعى مسؤوليّة ذياع صيتِه ونفوذ كلمته وأمره وألا
يستعمل منها إلا ما كان في مصلحة نفسه ومصلحة مجتمعه وأهله ، وهذا مثَل الفريق
الأخير من الساعين إلى النفوذ .
ومن الساعين إلى النفوذ بوساطة الشهرة ، نجد
المتنبِّئين والدجالين والكذابين في القديم ، ونجد الشعراء والإعلاميين والقنوات
الإعلامية قديمًا وحديثًا ، المصلح منها والمفسد ، ونجد الأُمراء والدُّوَل قديمها
وحديثها بشتى صورها .
من المظاهر الحديثة :
نكتفي بذَينِكُم المثالَين العامَّين من
مظاهر السعي إلى النفوذ التي كانت في القديم ومثلها في الحديث ما زال جاريًا . أما
المظاهر الحديثة التي استُحدِثَتْ مع استحداث وسائل الاتصال الحديثة ، فمنها :
الاستكثار من المتابعين : وهذا أمرٌ
غُسِلتْ منهُ الأيدي وقُضِي في حكمه ؛ فهو معروف مشهور لدى كلّ من يتابع وسائل
الاتصال الحديث أو مواقعه الإلكترونيّة ، فتجِده يسعى إلى تكثير متابعيه بشتى
السُّبُل ، فمن إضافات عشوائيّة جماعيّة إلى قائمة الأصدقاء ، إلى متابَعة ما هبّ
ودبّ من الحسـابات على موقع المغرد ( twitter ) مثلاً ، ومثلُه حاصلٌ أيضًا على اليوتيوب ( Youtube ) وربما البرنامج المسمّى " كِيك – keek " – كما يظهر من السّباق على إبداء الإعجابات للمقاطع
والتعليقات والاشتراك في القنوات ، والتفاخُر بكثرة المشتركين والمُعجَبين ، حتى
صار سباقًا محمومًا بين رُوّاد تلك المواقع ، فهو من أظهر ما يكون لطبع حب توسيع
وبسط النفوذ والتأثير .
والمتأمّل في سبب هذا السباق نحو اتساع
النفوذ والتأثير يجد أن من أسبابه الجوهريّة – بشكل رئيس – ذاك السّبب الأوّل الذي
ذكرناه في أصل حب بسط النفوذ ، وهو غريزة البحث عن التقدير والتوقير ، وفي أحيان
يكون السبب الثاني ، وفي أحيان الثالث .
والسبب في هذا التبايُن في الدوافع والأسباب
أنّ وسائل التقنية الحديثة عُمومًا هي بمثابة كوب فارغ يملأه باللبن من يشاء ،
ويملأه بالماء من يشاء ، ويملأه بغير ذلك من يشاء ، وهذا مضطرد في كل وسائل
التقنية الحديثة ، وهي – عمومًا – لا تعمل إلا أن تزيد – كما قلنا – من ظهور وبروز
الظواهر الاجتماعيّة والإنسانيّة الطبيعيّة[2] ،
فكلٌّ يغنّي على ليلاه ، وكلُّ إناء بما فيه ينضح ، وليس شيءٌ أظهرَ لحقيقة الطبع
من الفراغ ؛ إذ الفرصةُ سانحة لكلّ من شاء أن يفعلَ ما شاء .
التَّنافُس
التجاري التقني : هذا التَّنافُس قد يكون من أوضح المظاهر في السعي إلى بسْط
النفوذ ، وهو في الآوِنة الأخيرة أظهر وأوضح بعد الثورات الصّناعيّة والاتساع
الكبير في التجارة والصناعة والتهافُتِ على اقتناء أحدث التقنيات ، وصخب الإعلانات
التجاريّة المحرضة على الاستهلاك باستمرار دونما هدوء أو توقُّف .
وهو يندرج تحت الفئة الأولى من الدوافع إلى
السعي إلى بسط النفوذ ، وتارةً تحت الفئة الثّانية ، وأما الفئة الثالثة فمن
النّادر أن يندرج هذا النوع تحتها – خاصّةً إذا كنا نتحدث عن التقنية الحديثة
وآلاتها – .
~
(3-5)
خُطورَة مظاهِر اتساع النفوذ والتأثير :
الخطُورة تكمُن في مظاهر اتساع دائرة تأثير
الفرد الواحد في العصر الحديث أكثر مما كانت في العصر القديم ، ففي القديم كانت له
ضوابطُه وشفافيّتُه ووضوحُه ، وأما في الحديث من الغُموض والتستُّر والخِداع ما لم
يكن قبلُ .
وخُطورة أيّ نفوذ أو تأثير تكمُن في تمكُّن
غير الأكفاء منه ، ويكفي أنّ أميرًا على بلد إن أصلح النية والسيرة في رعيتِه حصلت
البركة لهمْ ولبلدهم ، وإن أضمَر الشرّ ونواه ففي ذلك بوار أرضه وفسادها .
ففي الآن الأخير صار من لم يصل إلى العشرينَ
من عُمُره ذا نفوذ يوازي ويحاكي نفوذ صاحب الخمسينَ عامًا وله من الخبرة والحكمة
ما ليس لذاك الصغير . وبالمثل ، فقد صار الفاجر الماجِن الذي ليس له من التقوى ذاك
النصيب له من النفوذ ما للعبد التقيّ القائم بكتاب الله وسنة رسوله – صلى الله
عليه وآله وصحبه وسلم – ، وربما فاقه في اتساع دائرة نفوذ وتأثيره ، وهذا إن كان
فهو تصديق لخبر المصطفى – صلى الله عليه وآله وسلم – بنطق الرويبضة آخرَ الزمان .
والفاسد في نفسه إن صارت له القدرة على
التأثير والنفاذ كان من أخطر الأمور على مجتمعه ، وإن ذلك لمن أسباب كثرة الخبث ،
وكثرةُ الخبث مؤذنة بالشر على المجتمع ؛ ففي الحديث " أنّ رسول الله – صلى
الله عليه وسلم – دخل يومًا على زينبَ بنتِ جحش – رضي الله عنها – فزِعًا يقول :
" لا
إله إلا الله ، ويلٌ للعربِ من شرٍّ قد اقترب ، فُتِح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج
مثلُ هذه " ، وحلق بإصبعيه الإبهام والتي تليها ، قالت زينب بنت جحش :
يا رسولَ الله ، أفنهلِك وفينا الصالحون ؟ قال : " نعم ، إذا كثُرَ الخبث "
. " ( البخاري - 7135 ) .
~
(4-5)
لكيْ لا يكثُرَ الخبث :
إذا علِمْنا أنّ التأثير والنفوذ متاحان
لكلّ من يطلُبهما من طريقهما الصحيح ، وأنّ المفسد وغير الصالح للتأثير قد يمسك
بزمام التأثير والنفوذ ويقود السفينة ، وجب على الناس أن يسلُكوا الطُّرُق التي
تحول بين كل من هو على تلك الصفة وبين أن يصل إلى موقع التأثير ، أو – إن وصل
فعلاً – أن تحول بينه وبين استمراره في موقعِه وقيامه بدور التأثير والقيادة .
وفي الوقت الحالي تكون مقاوَمة أمثال هذا
الفاسد الساعي إلى النفوذ والتأثير بأمور بعضُها جليل واضح ، وبعضُها دقيق خفيّ قد
لا يفطن له كثير ، فمن ذلك :
· مقاومة الفاسدين الساعين إلى النفوذ من
بداية شروعهم في طلب النفوذ والحلول في موقِع التأثير ؛ فإن من الأدواء والعِلَل
التي تصيب المجتمع أن تتغافَل عن ظواهرَ سلبيّة وتهملَها كسلاً عن الإنكار
والمقاومة والتصحيح أو ظنًّا بقلّة الأهمية والخُطورة ، ثم يفاجأ بتلك الظواهر السيّئة
الصغيرة سابقًا قد كبُرتْ وحلت في النفوس والقُلوب وأُشرِبَتْها – كما أُشرِب بنو
إسرائيل العِجْل في قلوبهم – والعياذ بالله – –
، ومن هذا البيت المشهور :
كلُّ
الحوادثِ مبداها من النَّظَرِ *** ومُعظَمُ النارِ منْ مستصغَرِ الشَّرَرِ
وإن
النظر من أقرب مداخل القلبِ نفاذًا إليه وتأثيرًا عليه ، ومن طريف ما هو مشهور ما
قيل أيضًا : " كثرة المساس تميت الإحساس " ، و" كثرة الضغط تولّد
الانفجار " .
· عدم الانخداع بالمظاهر والانطباعات
الأوليّة ؛ فلأن العقلَ قاصرٌ فهو يسعى إلى إطلاق الأحكام بأقصر الطرق والتشبُّث
بأقرب الأفكار المتوفّرة أمامه حتى يرسوَ على برّ ويستقرّ ، ولكنّ مسألة الانطباع
الأوّل باتتْ سهلة المنال وقريبةَ الاستغلال ، فكلُّ من أراد التسويق لنفسه أحسن
الورود والدخول في البداية ، حتى يوطّدَ له الأمور ، فإذا توطّدت أبدى نفسَه على
حقيقتها ، وحينئذ تصعُب إعادة النظر ومراجعة الأحكام وتغيير الواقع ، وأمثلة هذا
باتتْ جليّةً جدًّا لكل ناظر ( إعلاميًّا في الوسائل القديمة والحديثة – كبرامج اليوتيوب
وغيره – ، ومشاريعَ على أرض الواقع قد تكون عـــــــــــــــــمرانية أو تربوية أو
ثقافية أو تجاريّة أو نحو ذلك ) .
· اتّحاد الكلّ ضدّ الفاسد ؛ فإن من
العوائق في هذا الطريق أنْ يجد صاحب النفوذ الفاسدُ من يؤيّده ويبدي به إعجابه
واستحسانه ، فهذا يعطّل مسير المغيّرين وكذلك يَغُرّ هذا الفاسد ليمضيَ في سبيله
وطريقته ، وصدق الله كل الصدق إذ يقول : " وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ
وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ[3]
" ( الأنفال - 46 ) .
تأبى
الرِّماحُ إذا اجتمعْنَ تكسُّرًا *** وإذا افترقْنَ تكسّرتْ آحادَا
·
إحياء
الهِمَم للنّهوض بوجه الفاسد ؛ فإنّ أحكمَ الحكماء وأعقلهم وأبصرهم بالأمور ليس
ينفعُه ذلك إن لم يكن قوي العزيمة مقدامًا ، ومنه دعاء النبي – صلى الله عليه وآله
وسلم – في صلاته : " اللهمّ إني أسألُك الثباتَ في الأمر ، والعزيمةَ على
الرُّشد ، وأسألك شكر نعمتك ، وحُسن عبادتك ، وأسألك قلبًا سليمًا ، ولسانًا
صادقًا ، وأسألك من خير ما تعلم ، وأعوذ بك من شرّ ما تعلم ، وأستغفرك لما تعلم
" ( صححه الألباني لغيره – مشكاة
المصابيح ، 915 ) .
إذا
كُنتَ ذا رأيٍ فكُنْ ذا عزيمةٍ *** فإنَّ فسادَ الرّأيِ أن تتردَّدَا
وكذلك
لا ينفَع أن يعلمَ ويكره الناس هذا الفاسد حينما وصلَ إلى محِل النفوذ والتأثير ،
لا ينفع ذلك إلا بعزيمة تذهب شرّه وضرره عنهم .
· النيّة الصالِحة الواضحة بابتغاء وجه
الله – عز وجل – والأمر بالمعروف والنهيِ عن المنكر والصدقُ في كل ذلك واليقين في
نجاحه وإحســـــان الظنّ بالرب كما يليق به – هو سر نجاح كل ذلك على الحقيقة وسِرُّ
وثمرته .
~
(5-5)
خِتام :
انظرْ وتأمّل في دوافع السعي إلى توسيع
النفوذ والتأثير ، وانظر وتأمّل في مظاهره قديمًا وحديثًا ، ثمّ انظر في محيطك ومن
حولَك ؛ فإذا وجدتَ فيهم من سعى إلى التأثير والنفوذ في حيّزه – صغيرًا كان أو
كبيرًا – فانظر إلى هدفِه وغايته ، فإن وجدتَه مبتغيًا خيرًا وإصلاحًا ومعروفًا ،
فادعمْه وشجّعه ولا تأنفْ أن تكون له تابعًا ، وهذا صلاحُه ونفوذه ينفعه وينفع
مجتمعه ويقـــــــودهم جميعًا إلى محيط صحّيّ مستنير ، وسيكون لك سبق أجر وفضْلٍ
في هذا ؛ إذ أنت دعمتَه بحكمتك وعلمك لنبيلِ هدَفِه .
وأما إن وجــــــدتَه أهـــــــــــــــــدافَه
أنانيةً أو فاسدة مضللة ، فكن محاربًا له ظاهرًا وباطنًا مباشرةً أو بغير مباشرة ،
فهو – ما دام على هذه الحال – تفاحةٌ فاسدة ، إن أُهمِلَت أفسدت ما حولها وكانت
عنصر هدم وتضييع للبيئة والمحيط .
والله أعلم ، وهو الموفّق والهادي والمسدد .
~
ما كان من صواب وبيان وحقّ فمن
فضل الله وحدَه محضًا وصِرفًا ،
وما كان من خطأ وباطل وسوء فمني
نفسي أو من الشيطان – نعوذ بالله منه – ،
والله – سبحانه – أعلم .
نسأل الله العزة والنصرة لدينه
والقائمين به ، وأن يكفينا شرّ كل من أفسد وكل من اعتدى وكل من عاند وتجبّر ،
وأن يستعملَنا ولا يستبدلَ بنا .
والحمد لله رب العالمين ، وصلى
الله وسلم وبارك وزاد على عبده ورسوله محمد بن عبد الله وآله وصحبه والذين اتبعوهم
بإحسان – إلى يوم الدين .
.. ولا حول ولا قوة إلا بالله ..
[1] من قوله – تعالى – على لسان
شعيب – عليه الصلاة والسلام – : " أرهطي أعزّ عليكم من الله " ، وقولِه
: " فليدعُ ناديَه " .
[2] إلا إن كان منشئوها أنشأوها
لأهداف محدّدة ولكن لم يعلنوها للمستخدِمين ، وهذا مدعاةُ للشك في كثير من
التقنيات والمواقع الشبكيّة مجهولة الأهداف .
[3] الفشل : الضعف والتراخي ،
والريح في الآية : بمعنى الغلبة والقوة ( لسان العرب ) .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق