بسم الله
الرحمن الرحيم
الدِّين
في الأصل غيرُ قابلٍ للتفسير
" الطبيعة أقوى منا " .
" لم نستطع أن نفهمَ الكونَ كلَّه بعد
" .
هذه بعضُ الاعترافات التي تبدُر من فيزيائيّ
متمكّن في تخصّصه ومولَع بنظريّات الفيزياء ، خاصةً النسبيّة والأوتار !
في لقاء للشاب البريطاني حمزة تزورتزس وبين
ريتشارد دوكنز الملحد النشيط دبلوماسيًّا والمتبني لنظرية التطور ، ادّعى دوكنز أن
نظرية التطور يمكن فهمُها وإدراكُها بشكل أسهل بكثير مما يمكن فهم الكون وإدراكُه
، فردّ عليه حمزة بأنّ الذي خلق هذا الكون إذا كان خلقُه معقدًا فلا يعني أنه نفسه
معقد أو لا يمكن فهمه ، وكذلك دينُه وتعاليمُه .
دوكنز ليس معنيًّا بالفيزياء ، ولكنّ فروع
العلوم المختلِفة التي تبحث عن تفسير للخلْق هي في الحقيقة من عائلة واحدة .
هذا الادعاء الذي ادعاه أخونا الداعية حمزة –
وفقه الله – ورأى أنّه ردّ على حجّة أن الدين لا يُفهَم وأنّ الأديان هي مجرّد
هرطقات ، هو نابعٌ من فكرتِه التي تقوم على تطويع العلم التجريبي لإثبات الرسالة ،
وهذا في رأيي يبدو غيرَ صحيحٍ .
إنّ الله – جل وعلا – الذي خلَق الكون
بتعقيداته وعظمةِ نُظُمه ورقيِّها عن إدراك البشر إلى الآن – وربما إلى الأبد – هو
نفسُه الذي أنزَل الرسالات الحقّة وافترض فيها العبادات جميعًا ، بهدَف عودةِ
الإنسان إلى غايةِ خلقِه والصراط المستقيم . أيْ أن الرسالات هي تعودُ به إلى
الأصل الذي سينسجم به مع خلق ربِّه أحسَنَ انسجام وتصلُح الخليقة كلُّها لو أنّ كل
بني آدمَ قد عملوا بهذه الرسالة ، وإن رأى أنه يؤدي هذا الغرض بوسائل أخرى ، ولكن
وسيلة الدين هي التي في النهاية ستثبت أنها الحق ، ولو كانت هذه النهاية لن تأتي
إلا بعد إعادة تاريخ الكون كله من جديد .
وإذا كان كذلك ، فإن الرسالات تكونُ أيضًا
فيها من الغموض والإبهام كما في الكونِ .
إنّ العمل بمقتضى حدود العقل البشريّ طالما
قادَ العالم إلى فساد وخراب ، طبيعيًّا واجتماعيًّا وصحيًّا . وإنّ زعمَ إدراك
العقل المجرّد للدينِ هو مثلُ زعْم إدراك العقل المجرّد للكون كلِّه .
هذا مفهومٌ قد يعارِضُه بشدّة أصحابُ
الإعجازِ العلميّ ، وأولئك الذين يجعلون العلمَ وسيلةً رغمًا عنه لإثبات الدين .
والحقيقة أنّ العلم البشري اليوم لم يصلْ لتلك المرحلة ، وقد لا يصِل أبدًا ؛ فهو
إذًا غيرُ معولٍ عليه .
لنأخُذْ أمثلةً .
أما الكونُ ، فإنّ فيه ظواهرَ كثيرة تركت
الفيزيائيين – وهم المعنيون بتفسير الكون – في حيرةٍ وعجز .
من هذه الظواهر الثقوب السوداء التي لم
يُقدّر – ولن يقدر طبقًا لتوقعات الفيزيائيين – أن يصل لها البشر ويختبروها ،
ويبدو أن أكثر المعادلات والنظريات تطورًا لا تصلُح في تلك الثقوب ، وهذه الثقوب
وحدَها كفيلةٌ بالإشارة بجلاء إلى عجز الإدراك البشري أمام الكون . ومثلُ ذلك في
نشأة الكون وبدايته ، ومصيره بعد الفناء ، وفيما إذا كانت هناك حيوات بأشكال
ونُظُم أخرى غير نظمنا وقوانيننا .
أمّا في الدين ، فإننا نرى تجريمَ اللواط ،
وقتل المرتدّ ، والجِهاد ، وتعدّد الزوجات للرجال دونَ النساء ورفع الرجال على
النساء درجة ، والطُّرُق المحددة للصلاة وللدعاء والعبودية ، وفي المقابل نرى
حريّة الدين ، والأمر بالإعراض عن الجاهلين والكافرين ، وكذلك نرى حقوق الإنسان
والمنطِق البشري ، بل وباب واسعٌ للشك وردّ الأديان ، وهو علم الطاقة الحيوية
والعلوم الشرقيّة ، والتي أثبتتْ حريّة اختيار الإنسان وقدرته العالية على تغيير
الكثير ، مع أنّ هذا لا ينفي أن الله – عز وجل – هو من قدّر هذا وخلقه حتى يسمحَ
للكافر أن يكفُر لأقصى درجاتِ الكفر ، ولا يسمحَ لأحد أن يدخُل الدين إلا من أجل
الدين والله فحسب .
قد يقول قائل إنّ الحدود الشرعيّة هي
منطقيّة لأنها تردَع الإنسان متى طبّقتْ عن الجرائم مثل القتل والسرقة والإفساد في
الأرض .
ولكنّ هناك من يردّ على هذا بسؤال : الزنا
والشذوذ وحرية الجنس عمومًا أصبحت الآن آمنة صحيًّا من خلال وسائل العزل ومنع
الحمل ، بل إنّها تمنح أفراد الجنسَين حقوقهم الجنسية بدلاً من الكبْتِ والاضطراب
النفسي والصراع الداخلي وربما الانحراف كمضاعفات لهذه الأمور .
وإذا قلتَ إن اللواط قد يسبب انقراض
البشريّة ، سيقول لك إن أعداد الناس اليوم كافية ، وضرر الشذوذ الصحي استطعنا
تجنُّبَه ، وإنّ أعداد الناس التي ستقل هي مشكلة أصغر من مشكلة أعداد الناس التي
ستزيد من خلال الزواج المعتاد ، كما أن العلم الحديث استطاع أن يجعل الشاذ يحمِل
ويلد ، أضف إلى ذلك أن الشاذ يولَد شاذًّا – مع أن هذا ليس مثبتًا علميًّا على
الصحيح – .
وأمام هذه المفارَقات العصريّة – والنظرات
القاصرة حقيقةً ، ولكنّها معتبرة وينبغي ردّها بالمعرفة الصحيحة – فإننا نحوّل
اعتقادَنا وفَهمَنا إلى أن المنطِق والاستنباط البشريَّين وحدَهما لن يستطيعَا
إثباتَ صحة الرسالة . ومع أنّ هذا قد يسبّب إزعاجًا ورفضًا لبعض الدعاة ، إلا أنه
يرجِعُنا إلى حقيقة عزّة هذا الدِّينَ وارتقائه عن كل ما يمكن للبشر إنتاجه
وتأليفه ، ويجعَل المؤمنين أيضًا في طمأنينة عندما يرونَ أن بعض نظريات العلم لا
يفسّرها الدين أو يختلِف معها ، ويقرّب مفهومنا للدين للملحدين والمشركين كذلك ،
بدلاً من استجداء العلم الحديث لإثبات حقيقة الدين ؛ فإن تفسير هذا الدينَ الذي
يجعلُنا في انسجام مع خالق الكون الذي هو فوق قدرات البشر الإدراكية هو أيضًا فوق
قدرات البشر الإدراكيّة .
وإن هذه الدعوى ليستْ بشاذّة عن القرآن ، بل
إنّها مقرّرةٌ مؤكّدة في أواسط القرآن : " وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ
إِلاَّ قَلِيلاً " ، وإنّ العلم لا يعني الطب ، ولا الفيزياء ، بل العلم الذي
أوتيَه الأنبياء والرسل ، وقد يكون الطب والفيزياء مدعّمَين له ، وهم مع ذلك في
مرتبة لا ترقى إلى الكمال في العلم .
إن دوكنز وغيره الكثير من الفيزيائيين أو
كلّهم يعتقدون أن الكون فوق إدراكنا إلى الآن ، وإنّنا لنعلَمُ أن الدين والطريق
الأمثل للتفاعل مع هذه الحياة هو أيضًا فوق إدراكنا الآن ، وقد لا يختلِف الدين عن
الكون في هذا – والله أعلم – . هو فوق إدراكنا من ناحية تفسيره وشرحه وتعليله ، لا
من ناحية أساليبه وتشريعاته المباشرة ، فلو كان كذلك لكانت هذه ثغرة في الخلق ؛
لأن الإنسان هو المخلوق الوحيد الذي حمل على عاتقه الأمانة وحرية الاختيار ، فإذا
لم ينزِلْ له ممن كلفه هُدًى فإنّه سيهيم ويضِلّ في الأمور التي لم يستطعْ إدراكها
، وحُقّ له ذلك ، وهذا يعني فسادًا وخللاً في الأرض .
لهذا نحن نؤمن أنّ هذه الرسالة بالتحديد هي
غايةُ ما يصلح لبني آدم في هذه الحياة وترفعُه بين المخلوقات أيّما رفعة لاتصاله
مع أقوى قوة وأصل كل شيء ، وقد نسمّي هذا عندنا " التزكية " أو "
الولاية " .
أَعلَمُ أنك – أيها القارئ الحبيب – تستحضر
في ذهنك أمثلة لإعجازات علميّة وافق فيها العلمُ التطبيقي القرآن والسنة ، أؤكد
هذا وأشاركك فيه ، ولكن في المقابل هناك من العلوم التطبيقية ما لم يصلْ إلى
حقيقةٍ أو تفسير نهائيّ يرضي القائمين عليه ، وقد يعارض ما وصلوا إليه الدين فلا
ينفعهم العلم التطبيقي ، كما أنّ هناك من الدّين ما لم يصلْ له العلم التطبيقي وأنكرَه
، فلم ينفع العلم التطبيقي أيضًا في هذه الأمور . ومع أنّ إثباتَ البعض قد يكفي
لإثبات الكلّ – خاصةً وأن البحوث تكتشف صحة كلام رجل أمّيّ – صلى الله عليه وآله
وسلم – بل وعربيّ من أمة لم تعرف الحضارة بالإضافة إلى أنه من أكثر من 1000 سنة من
الآن – ، ولكنْ إذا عارض البعض الآخر العلم التطبيقي القاصِرَ فإنه قد يحدُث الشك
والارتياب من جديد .
هذا وقد يصِل العلمُ إلى إثباتاتٍ جذريّة
عميقة في إثبات صلاح الدين وكونِه الطريق الأمثل لحياة الإنسان وصحته " جسدًا
وعقلاً وروحًا " – مثل تعبير د. وليد فتيحي – ، من خلال أبحاث علوم النفس
والاجتماع ، وأبحاث الدماغ والأعصاب التي تتحكم في كل الإنسان بكل جوانبه ، ولكن
هذا لم يكتملْ إلى الآن ، ويحتاجُ إلى توجيهٍ مقنّن ؛ لأجل أن يتطرّق إلى نقاط
الخلاف الفاصلة بين الدين وبين غيره ، وبين كل دين والأديان الأخرى ، وتأثير كل من
تلك الأمور على البشر وتفاعلاتهم وأدائهم وما يؤثر به الفرد منهم على غيره من
الناس والبيئة والطبيعة ، ويجبُ أن نضمن أن نصل في هذا البحث إلى أبعد نقطة
وأعمقها ؛ لأننا نؤمن بأنّ هذا الدين هو المصير والصراط المستقيم للكون .
وفي حال لم يمكن الوصول إلى شيءٍ كهذا ، فإن
هذا لا يضرُّ الدينَ شيئًا ، فإن الذي جذبنا لهذا الدين هو الله الذي وراء كل شيء
وفوق كل شيء " لاَ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ
" و" لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ " ، متّبعينَ في ذلك ملةَ إبراهيم
الخليل – عليه وعلى نبينا وآلَيهما الصلاة والسلام – " حَنِيفًا " ..
" وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ " .
وإن الطريق الذي قد يكون الوحيد لإدراك صحة
هذه الرسالة وتصديقها هو اختبار القرآن ومفاهيمه وإسقاطه على الوقائع والأحداث
لتظهَرَ سنةُ الله جليةً مصداقًا لكتابه العزيز ، بشرط الفهم الواعي واسع الأفق
لمجموع آياته ومقاصدها ودلالاتها بعيدًا عن التأويلات غير اليقينيّة ولو كانت
مأثورةً – من غير رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – . ومنْ طرَقَ هذا الباب
فإنه بإذن الله يعود إمّا مؤمنًا مصدّقًا لما عرف من الحق ، أو مستكبرًا آبيًا على
ما عرَف من الحق ؛ لمرض في قلبه ، والله أعلم . وإنّ مما يدلّ الباحث على هذا المفهوم
هو أن الله كثيرًا ما افتتح السُّوَر بوصف كتابه بأوصاف تبيين الحق والبشارة
والنذارة والتفصيل وغير ذلك : " وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى
فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ ومَن ضَلَّ فَقْلْ إِنَّمَا أَنَاْ مِنَ
الْمُنذِرِينَ " .
والله – سبحانه – أعلى وأعلم .
سبّح الله .. " وَإِن مِّن شَيْءٍ
إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكْن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ " ،
واذكره على الدوام .. " وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً
وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلاَ تَكُن مِّنَ
الْغَافِلِينَ * إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ
عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ " .
بسّام بن عصام يغمور – مكّة
23/9/34 –
12:00ص
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق