المشاركات الشائعة

الخميس، 17 يوليو 2014

الدّين في الأصْل غير قابلٍ للتفسير .. إلا إذا ...

بسم الله الرحمن الرحيم

الدِّين في الأصل غيرُ قابلٍ للتفسير

     " الطبيعة أقوى منا " .

   " لم نستطع أن نفهمَ الكونَ كلَّه بعد " .

     هذه بعضُ الاعترافات التي تبدُر من فيزيائيّ متمكّن في تخصّصه ومولَع بنظريّات الفيزياء ، خاصةً النسبيّة والأوتار !

     في لقاء للشاب البريطاني حمزة تزورتزس وبين ريتشارد دوكنز الملحد النشيط دبلوماسيًّا والمتبني لنظرية التطور ، ادّعى دوكنز أن نظرية التطور يمكن فهمُها وإدراكُها بشكل أسهل بكثير مما يمكن فهم الكون وإدراكُه ، فردّ عليه حمزة بأنّ الذي خلق هذا الكون إذا كان خلقُه معقدًا فلا يعني أنه نفسه معقد أو لا يمكن فهمه ، وكذلك دينُه وتعاليمُه .

     دوكنز ليس معنيًّا بالفيزياء ، ولكنّ فروع العلوم المختلِفة التي تبحث عن تفسير للخلْق هي في الحقيقة من عائلة واحدة .

     هذا الادعاء الذي ادعاه أخونا الداعية حمزة – وفقه الله – ورأى أنّه ردّ على حجّة أن الدين لا يُفهَم وأنّ الأديان هي مجرّد هرطقات ، هو نابعٌ من فكرتِه التي تقوم على تطويع العلم التجريبي لإثبات الرسالة ، وهذا في رأيي يبدو غيرَ صحيحٍ .

     إنّ الله – جل وعلا – الذي خلَق الكون بتعقيداته وعظمةِ نُظُمه ورقيِّها عن إدراك البشر إلى الآن – وربما إلى الأبد – هو نفسُه الذي أنزَل الرسالات الحقّة وافترض فيها العبادات جميعًا ، بهدَف عودةِ الإنسان إلى غايةِ خلقِه والصراط المستقيم . أيْ أن الرسالات هي تعودُ به إلى الأصل الذي سينسجم به مع خلق ربِّه أحسَنَ انسجام وتصلُح الخليقة كلُّها لو أنّ كل بني آدمَ قد عملوا بهذه الرسالة ، وإن رأى أنه يؤدي هذا الغرض بوسائل أخرى ، ولكن وسيلة الدين هي التي في النهاية ستثبت أنها الحق ، ولو كانت هذه النهاية لن تأتي إلا بعد إعادة تاريخ الكون كله من جديد .

     وإذا كان كذلك ، فإن الرسالات تكونُ أيضًا فيها من الغموض والإبهام كما في الكونِ .

     إنّ العمل بمقتضى حدود العقل البشريّ طالما قادَ العالم إلى فساد وخراب ، طبيعيًّا واجتماعيًّا وصحيًّا . وإنّ زعمَ إدراك العقل المجرّد للدينِ هو مثلُ زعْم إدراك العقل المجرّد للكون كلِّه .

     هذا مفهومٌ قد يعارِضُه بشدّة أصحابُ الإعجازِ العلميّ ، وأولئك الذين يجعلون العلمَ وسيلةً رغمًا عنه لإثبات الدين . والحقيقة أنّ العلم البشري اليوم لم يصلْ لتلك المرحلة ، وقد لا يصِل أبدًا ؛ فهو إذًا غيرُ معولٍ عليه .

     لنأخُذْ أمثلةً .

     أما الكونُ ، فإنّ فيه ظواهرَ كثيرة تركت الفيزيائيين – وهم المعنيون بتفسير الكون – في حيرةٍ وعجز .

     من هذه الظواهر الثقوب السوداء التي لم يُقدّر – ولن يقدر طبقًا لتوقعات الفيزيائيين – أن يصل لها البشر ويختبروها ، ويبدو أن أكثر المعادلات والنظريات تطورًا لا تصلُح في تلك الثقوب ، وهذه الثقوب وحدَها كفيلةٌ بالإشارة بجلاء إلى عجز الإدراك البشري أمام الكون . ومثلُ ذلك في نشأة الكون وبدايته ، ومصيره بعد الفناء ، وفيما إذا كانت هناك حيوات بأشكال ونُظُم أخرى غير نظمنا وقوانيننا .

     أمّا في الدين ، فإننا نرى تجريمَ اللواط ، وقتل المرتدّ ، والجِهاد ، وتعدّد الزوجات للرجال دونَ النساء ورفع الرجال على النساء درجة ، والطُّرُق المحددة للصلاة وللدعاء والعبودية ، وفي المقابل نرى حريّة الدين ، والأمر بالإعراض عن الجاهلين والكافرين ، وكذلك نرى حقوق الإنسان والمنطِق البشري ، بل وباب واسعٌ للشك وردّ الأديان ، وهو علم الطاقة الحيوية والعلوم الشرقيّة ، والتي أثبتتْ حريّة اختيار الإنسان وقدرته العالية على تغيير الكثير ، مع أنّ هذا لا ينفي أن الله – عز وجل – هو من قدّر هذا وخلقه حتى يسمحَ للكافر أن يكفُر لأقصى درجاتِ الكفر ، ولا يسمحَ لأحد أن يدخُل الدين إلا من أجل الدين والله فحسب .

     قد يقول قائل إنّ الحدود الشرعيّة هي منطقيّة لأنها تردَع الإنسان متى طبّقتْ عن الجرائم مثل القتل والسرقة والإفساد في الأرض .

    ولكنّ هناك من يردّ على هذا بسؤال : الزنا والشذوذ وحرية الجنس عمومًا أصبحت الآن آمنة صحيًّا من خلال وسائل العزل ومنع الحمل ، بل إنّها تمنح أفراد الجنسَين حقوقهم الجنسية بدلاً من الكبْتِ والاضطراب النفسي والصراع الداخلي وربما الانحراف كمضاعفات لهذه الأمور .

     وإذا قلتَ إن اللواط قد يسبب انقراض البشريّة ، سيقول لك إن أعداد الناس اليوم كافية ، وضرر الشذوذ الصحي استطعنا تجنُّبَه ، وإنّ أعداد الناس التي ستقل هي مشكلة أصغر من مشكلة أعداد الناس التي ستزيد من خلال الزواج المعتاد ، كما أن العلم الحديث استطاع أن يجعل الشاذ يحمِل ويلد ، أضف إلى ذلك أن الشاذ يولَد شاذًّا – مع أن هذا ليس مثبتًا علميًّا على الصحيح – .

     وأمام هذه المفارَقات العصريّة – والنظرات القاصرة حقيقةً ، ولكنّها معتبرة وينبغي ردّها بالمعرفة الصحيحة – فإننا نحوّل اعتقادَنا وفَهمَنا إلى أن المنطِق والاستنباط البشريَّين وحدَهما لن يستطيعَا إثباتَ صحة الرسالة . ومع أنّ هذا قد يسبّب إزعاجًا ورفضًا لبعض الدعاة ، إلا أنه يرجِعُنا إلى حقيقة عزّة هذا الدِّينَ وارتقائه عن كل ما يمكن للبشر إنتاجه وتأليفه ، ويجعَل المؤمنين أيضًا في طمأنينة عندما يرونَ أن بعض نظريات العلم لا يفسّرها الدين أو يختلِف معها ، ويقرّب مفهومنا للدين للملحدين والمشركين كذلك ، بدلاً من استجداء العلم الحديث لإثبات حقيقة الدين ؛ فإن تفسير هذا الدينَ الذي يجعلُنا في انسجام مع خالق الكون الذي هو فوق قدرات البشر الإدراكية هو أيضًا فوق قدرات البشر الإدراكيّة .

     وإن هذه الدعوى ليستْ بشاذّة عن القرآن ، بل إنّها مقرّرةٌ مؤكّدة في أواسط القرآن : " وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً " ، وإنّ العلم لا يعني الطب ، ولا الفيزياء ، بل العلم الذي أوتيَه الأنبياء والرسل ، وقد يكون الطب والفيزياء مدعّمَين له ، وهم مع ذلك في مرتبة لا ترقى إلى الكمال في العلم .

     إن دوكنز وغيره الكثير من الفيزيائيين أو كلّهم يعتقدون أن الكون فوق إدراكنا إلى الآن ، وإنّنا لنعلَمُ أن الدين والطريق الأمثل للتفاعل مع هذه الحياة هو أيضًا فوق إدراكنا الآن ، وقد لا يختلِف الدين عن الكون في هذا – والله أعلم – . هو فوق إدراكنا من ناحية تفسيره وشرحه وتعليله ، لا من ناحية أساليبه وتشريعاته المباشرة ، فلو كان كذلك لكانت هذه ثغرة في الخلق ؛ لأن الإنسان هو المخلوق الوحيد الذي حمل على عاتقه الأمانة وحرية الاختيار ، فإذا لم ينزِلْ له ممن كلفه هُدًى فإنّه سيهيم ويضِلّ في الأمور التي لم يستطعْ إدراكها ، وحُقّ له ذلك ، وهذا يعني فسادًا وخللاً في الأرض .

     لهذا نحن نؤمن أنّ هذه الرسالة بالتحديد هي غايةُ ما يصلح لبني آدم في هذه الحياة وترفعُه بين المخلوقات أيّما رفعة لاتصاله مع أقوى قوة وأصل كل شيء ، وقد نسمّي هذا عندنا " التزكية " أو " الولاية " .

     أَعلَمُ أنك – أيها القارئ الحبيب – تستحضر في ذهنك أمثلة لإعجازات علميّة وافق فيها العلمُ التطبيقي القرآن والسنة ، أؤكد هذا وأشاركك فيه ، ولكن في المقابل هناك من العلوم التطبيقية ما لم يصلْ إلى حقيقةٍ أو تفسير نهائيّ يرضي القائمين عليه ، وقد يعارض ما وصلوا إليه الدين فلا ينفعهم العلم التطبيقي ، كما أنّ هناك من الدّين ما لم يصلْ له العلم التطبيقي وأنكرَه ، فلم ينفع العلم التطبيقي أيضًا في هذه الأمور . ومع أنّ إثباتَ البعض قد يكفي لإثبات الكلّ – خاصةً وأن البحوث تكتشف صحة كلام رجل أمّيّ – صلى الله عليه وآله وسلم – بل وعربيّ من أمة لم تعرف الحضارة بالإضافة إلى أنه من أكثر من 1000 سنة من الآن – ، ولكنْ إذا عارض البعض الآخر العلم التطبيقي القاصِرَ فإنه قد يحدُث الشك والارتياب من جديد .

     هذا وقد يصِل العلمُ إلى إثباتاتٍ جذريّة عميقة في إثبات صلاح الدين وكونِه الطريق الأمثل لحياة الإنسان وصحته " جسدًا وعقلاً وروحًا " – مثل تعبير د. وليد فتيحي – ، من خلال أبحاث علوم النفس والاجتماع ، وأبحاث الدماغ والأعصاب التي تتحكم في كل الإنسان بكل جوانبه ، ولكن هذا لم يكتملْ إلى الآن ، ويحتاجُ إلى توجيهٍ مقنّن ؛ لأجل أن يتطرّق إلى نقاط الخلاف الفاصلة بين الدين وبين غيره ، وبين كل دين والأديان الأخرى ، وتأثير كل من تلك الأمور على البشر وتفاعلاتهم وأدائهم وما يؤثر به الفرد منهم على غيره من الناس والبيئة والطبيعة ، ويجبُ أن نضمن أن نصل في هذا البحث إلى أبعد نقطة وأعمقها ؛ لأننا نؤمن بأنّ هذا الدين هو المصير والصراط المستقيم للكون .

     وفي حال لم يمكن الوصول إلى شيءٍ كهذا ، فإن هذا لا يضرُّ الدينَ شيئًا ، فإن الذي جذبنا لهذا الدين هو الله الذي وراء كل شيء وفوق كل شيء " لاَ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ " و" لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ " ، متّبعينَ في ذلك ملةَ إبراهيم الخليل – عليه وعلى نبينا وآلَيهما الصلاة والسلام – " حَنِيفًا " .. " وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ " .

     وإن الطريق الذي قد يكون الوحيد لإدراك صحة هذه الرسالة وتصديقها هو اختبار القرآن ومفاهيمه وإسقاطه على الوقائع والأحداث لتظهَرَ سنةُ الله جليةً مصداقًا لكتابه العزيز ، بشرط الفهم الواعي واسع الأفق لمجموع آياته ومقاصدها ودلالاتها بعيدًا عن التأويلات غير اليقينيّة ولو كانت مأثورةً – من غير رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – . ومنْ طرَقَ هذا الباب فإنه بإذن الله يعود إمّا مؤمنًا مصدّقًا لما عرف من الحق ، أو مستكبرًا آبيًا على ما عرَف من الحق ؛ لمرض في قلبه ، والله أعلم . وإنّ مما يدلّ الباحث على هذا المفهوم هو أن الله كثيرًا ما افتتح السُّوَر بوصف كتابه بأوصاف تبيين الحق والبشارة والنذارة والتفصيل وغير ذلك : " وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ ومَن ضَلَّ فَقْلْ إِنَّمَا أَنَاْ مِنَ الْمُنذِرِينَ " .

     والله – سبحانه – أعلى وأعلم .

     سبّح الله .. " وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكْن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ " ، واذكره على الدوام .. " وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلاَ تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ * إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ " .

بسّام بن عصام يغمور – مكّة

23/9/34 – 12:00ص

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق