المشاركات الشائعة

الاثنين، 23 يونيو 2014

لماذا يجب أن يُكبَح الإنسان ويتحدّد ؟

باسم الله

لماذا يجب أن يُكبَح الإنسان ويتحدّد ؟

     ليس هناك من يختلف مع حقيقة أن الإنسان هو الكائن المختار من ضمن المخلوقات المعروفة اليوم ، ذلك الكائن الذي تخطّى حاجز المكان والزمان ، وصار يحاكم الواقع ، ويستخدِمُه ، ويصنع واقعًا جديدًا كأنْ لم يكنْ من قبل . ولكنّه في الوقت نفسِه يجِد نفسه في أوقات محدودًا بموادّ محدودة حُدّ به وجود غيره من المخلوقات ، فلا بدّ له من الطعام ، ولا بدّ له من النوم ، ولا بدّ له من النشوة الجنسيّة ، ولا بدّ له من علاجات وحميات تقيه من الأمراض أو تعالجه منها .

     فهو بهذا مزدوج الكينونة .

     إنّه الكائن الذي استطاع بالتدريج أن يحتوِيَ العالم ويتخطّى حدود غيره من المخلوقات التي تعمَل على إطار الموجود ، وصار يعمَل في غير الموجود ويُوجِدُه ويقيسه على الموجود . وكل المبادئ والطموحات البشريّة ما هي إلا صُوَر لهذه الإمكانيّة الكائنة في هذا الكائن المتطوّر – الإنسان .

     فهذا الكائن له خطّان للعمَل ، خطّ الحيوانيّة والمخلوقات التي يتشارك معها في صفات معروفة أو هو خطّ المادّيّة والتعلق بها ( بفرض أن للمخلوقات الأخرى بعدٌ معنويّ أيضًا ) ، وخطّ اللامحدوديّة والمُلكيّة والحاكِميّة التي لا يتشارك معه فيها مخلوق معروف .

     بيْد أنّ هذا الإنسان لأنّه ينسى ويغفَل كأي مخلوق – فإنّه عند عمله على أحد خطّي العمل المفروضَين له – فإنه ينسى أن نصفَه مرهون بخط العمل الآخر ، فيضمحلّ وجودُه ويصبِح في خطر .

     إذا أردنا أن نفهَم هذا فلنا أن نتصوّر رجلاً مخلصًا لعمله جعل عملَه – أيًّا كان هذا العمل – فوق كل اعتبار ، فوق الأكل والشراب وكل الحاجات الجسديّة الحسّيّة المرهونة بكيميائه ، إنّه إذا استمرّ على هذا بدون توقّف فإنه سيصير إلى الزوال والعدم ، ولن يكونَ بعدها ، أو أنّه سيشعر بعدم اكتمال ذاته ؛ لأنه يستشعر الحاجات التي لا أقول تعترضه ، ولكنْ يشعر بها بالتوازي مع لذّته في عمله ، فهناك جزءٌ منه يعلم بالضرورة أنه لا بدّ أنْ يلبّى ، ذلك الجزء المحدود فيه ، وإن كانَ أقلّ في عظمة مردوده وثمرتِه من عملِه الذي يبذُل كل ما لديه لأجله . ولست أقصد بهذا الأكل أو الراحة أو ما شابههما بالتحديد ، بل كلّ محدوديّتنا حتى المعرفيّة والفكريّة .

     وتصوّر الذي يعمل على خطّ وجوده المحدود الذي يتشارك فيه مع البهائم وينسى خطّ العظمة والمعنى واللامحدوديّة ، حتى تفهَم الجانبَ الآخر .

     في كلتا الحالتَين كان الإنسانُ غير مستوفي الحاجات ، وغير مكتفٍ ، وغير مشبعٍ لطلبِه وسعيِه وصحّته ، إنّه ليس في حالتِه المثلى .

     لهذا لا يمكن لهذا الكائن أن يترُكَ أيًّا من خطّي عمله .

     إنّه حقّ ، أنّ هذا الكائن هو الكائن الفريد المعلوم بالنسبة له والذي سُمِح له بأن يتخطّى كل  الحدود والعقبات – على الأقل بالنسبة له – ، وأن يتعامَل مع الكون كأنه ملكٌ له ، وأن يكون في نفسه دافع يدفعه على الدوام بلا توقّف ، إنّه الكائن الذي حظِيَ بهذا التميّز ، أفلا نطلِقُه ونتركه يبدِع ويخلق ؟!

     الجواب هو أنْ لا . إنّه خُلِق بجانب آخَر يُرجِعه إلى مادّيّة دنيئة أو قل : محدودة ، ولا يستطيع معها أن يوفي الجانب الثاني كما يتخيّله ، بل يوُجِب عليه أن يتوقّف عندَ حدّ ما ، يقرّ فيه بعجزِه ومحدوديّته ويدفعه ذلك للحذر من مغبّة انطلاقه الجامح ، ويعلم من خلاله أنّه لو أطلَق نفسه في الجانب المتميّز منه والذي لا يشاركه مع مخلوق آخر معلوم – فإنه لن يحقّق ذاته بل ربما يقضي عليها إذا تمادى ، وبالتالي إنه ليس الخيار الأمثل له ، لأنه ليس كما جُعِل له جانبُه الدنيء . وإنّ جزءًا كبيرًا من هذا هو من جرّاء جهل الإنسان ؛ إنه أُعطِي الآلة التي يُدرَك بها الكون ، ولكنّه يظلّ ضعيفًا أمام الزمان ، فهو لم يعرف لمَ خُلِق الكون وما هدفُه وما دستوره وإلامَ سيصير وماذا ستصير إليه الأفعال والأعمال – إلا من طريق علويّ – ، ولذلك انطلاقُه بصلاحيّاته المخوّلةِ له بلا حدود قد يُحدِث تصادُمًا يهلِك فيه الطرف الأضعف ، وهو بلا شكّ الإنسان . ولكنّه حينما تُعرَض عليه حكمة في الكون فإنّه يُدرِكها ويستوعبها ، ولكنّ هذا قد لا يكون متاحًا على الدوام ، فقد تكون الفطنة للحكمة عن طريق الوحي أو مصادفات من توفيق الله ، ولولاه ما انتبهنا وفطنّا ، فمن أظهر ضعف الإنسان وأكثره إصابةً به النسيان والغفلة .

     إن جانب التطور في الإنسان والذي يجعله في مرتبة من مفهوم الإله – وهذا المفهوم متماشٍ مع ثقافتنا الإسلاميّة ، فما الاستخلاف إلا ترجمةٌ له ، إنّنا ها هنا بميزات متفرّدة ليست لكائن آخر ، وذلك حتّى ننتمي لربنا وخالقنا من خلال عملنا عملَه في الأرض التي استُخلِفنا فيها ، كالابن الذي يفخَر بابنه الذي يرى فيه نفسه في أجمل صورة وموروث ، ولله المثل الأعلى – إن هذا الجانب لم يُخلَق لينطلق منفردًا ، بل ليتحدّد بالمادّيّة التي يشارك فيها الإنسان بقية المخلوقات المعروفة لديه ، بل هو متحدّد بها في الأصْل والبداية .

     إذًا ، لماذا يجب على الإنسان أن يُكبَح ويتحدد ، بينما هو مؤهّل في الابتداء للانطلاق وعمل الكثير ؟!

     الجواب : لأنه يتعامل مع الكون كأنه مَلِك له ومستقلّ عنه ، بينما هو ليس كذلك ولن يكون .

     وإنّ هذه الحدود المعنيّة هنا والتي يجب أن نتحدد بها لستُ بصدد ذكرها ها هنا ، ولكنّي أرجو أنك تفهمها عزيزي القارئ من خلال المواقِف والحالات المختلفة ، وبالطبع إنّي لا أقصِد كبح الإنسان من كلّ فطرتِه .

     " وأنجيْنا الَّذين ءامنوا وكَانوا يتّقون " ، والتقوى من العلم بالضعف والاعتراف به والحذر من عاقبته . والله أعلى وأعلم .

بسّام بن عصام يغمور
جدة – 18/11/34

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق