باسم
الله
لماذا
يجب أن يُكبَح الإنسان ويتحدّد ؟
ليس هناك من يختلف مع حقيقة أن الإنسان هو
الكائن المختار من ضمن المخلوقات المعروفة اليوم ، ذلك الكائن الذي تخطّى حاجز
المكان والزمان ، وصار يحاكم الواقع ، ويستخدِمُه ، ويصنع واقعًا جديدًا كأنْ لم
يكنْ من قبل . ولكنّه في الوقت نفسِه يجِد نفسه في أوقات محدودًا بموادّ محدودة
حُدّ به وجود غيره من المخلوقات ، فلا بدّ له من الطعام ، ولا بدّ له من النوم ،
ولا بدّ له من النشوة الجنسيّة ، ولا بدّ له من علاجات وحميات تقيه من الأمراض أو
تعالجه منها .
فهو بهذا مزدوج الكينونة .
إنّه الكائن الذي استطاع بالتدريج أن
يحتوِيَ العالم ويتخطّى حدود غيره من المخلوقات التي تعمَل على إطار الموجود ،
وصار يعمَل في غير الموجود ويُوجِدُه ويقيسه على الموجود . وكل المبادئ والطموحات
البشريّة ما هي إلا صُوَر لهذه الإمكانيّة الكائنة في هذا الكائن المتطوّر –
الإنسان .
فهذا الكائن له خطّان للعمَل ، خطّ
الحيوانيّة والمخلوقات التي يتشارك معها في صفات معروفة أو هو خطّ المادّيّة
والتعلق بها ( بفرض أن للمخلوقات الأخرى بعدٌ معنويّ أيضًا ) ، وخطّ اللامحدوديّة
والمُلكيّة والحاكِميّة التي لا يتشارك معه فيها مخلوق معروف .
بيْد أنّ هذا الإنسان لأنّه ينسى ويغفَل كأي
مخلوق – فإنّه عند عمله على أحد خطّي العمل المفروضَين له – فإنه ينسى أن نصفَه
مرهون بخط العمل الآخر ، فيضمحلّ وجودُه ويصبِح في خطر .
إذا أردنا أن نفهَم هذا فلنا أن نتصوّر
رجلاً مخلصًا لعمله جعل عملَه – أيًّا كان هذا العمل – فوق كل اعتبار ، فوق الأكل
والشراب وكل الحاجات الجسديّة الحسّيّة المرهونة بكيميائه ، إنّه إذا استمرّ على
هذا بدون توقّف فإنه سيصير إلى الزوال والعدم ، ولن يكونَ بعدها ، أو أنّه سيشعر
بعدم اكتمال ذاته ؛ لأنه يستشعر الحاجات التي لا أقول تعترضه ، ولكنْ يشعر بها
بالتوازي مع لذّته في عمله ، فهناك جزءٌ منه يعلم بالضرورة أنه لا بدّ أنْ يلبّى ،
ذلك الجزء المحدود فيه ، وإن كانَ أقلّ في عظمة مردوده وثمرتِه من عملِه الذي
يبذُل كل ما لديه لأجله . ولست أقصد بهذا الأكل أو الراحة أو ما شابههما بالتحديد
، بل كلّ محدوديّتنا حتى المعرفيّة والفكريّة .
وتصوّر الذي يعمل على خطّ وجوده المحدود
الذي يتشارك فيه مع البهائم وينسى خطّ العظمة والمعنى واللامحدوديّة ، حتى تفهَم
الجانبَ الآخر .
في كلتا الحالتَين كان الإنسانُ غير مستوفي
الحاجات ، وغير مكتفٍ ، وغير مشبعٍ لطلبِه وسعيِه وصحّته ، إنّه ليس في حالتِه
المثلى .
لهذا لا يمكن لهذا الكائن أن يترُكَ أيًّا
من خطّي عمله .
إنّه حقّ ، أنّ هذا الكائن هو الكائن الفريد
المعلوم بالنسبة له والذي سُمِح له بأن يتخطّى كل
الحدود والعقبات – على الأقل بالنسبة له – ، وأن يتعامَل مع الكون كأنه
ملكٌ له ، وأن يكون في نفسه دافع يدفعه على الدوام بلا توقّف ، إنّه الكائن الذي
حظِيَ بهذا التميّز ، أفلا نطلِقُه ونتركه يبدِع ويخلق ؟!
الجواب هو أنْ لا . إنّه خُلِق بجانب آخَر
يُرجِعه إلى مادّيّة دنيئة أو قل : محدودة ، ولا يستطيع معها أن يوفي الجانب
الثاني كما يتخيّله ، بل يوُجِب عليه أن يتوقّف عندَ حدّ ما ، يقرّ فيه بعجزِه
ومحدوديّته ويدفعه ذلك للحذر من مغبّة انطلاقه الجامح ، ويعلم من خلاله أنّه لو
أطلَق نفسه في الجانب المتميّز منه والذي لا يشاركه مع مخلوق آخر معلوم – فإنه لن
يحقّق ذاته بل ربما يقضي عليها إذا تمادى ، وبالتالي إنه ليس الخيار الأمثل له ،
لأنه ليس كما جُعِل له جانبُه الدنيء . وإنّ جزءًا كبيرًا من هذا هو من جرّاء جهل
الإنسان ؛ إنه أُعطِي الآلة التي يُدرَك بها الكون ، ولكنّه يظلّ ضعيفًا أمام
الزمان ، فهو لم يعرف لمَ خُلِق الكون وما هدفُه وما دستوره وإلامَ سيصير وماذا
ستصير إليه الأفعال والأعمال – إلا من طريق علويّ – ، ولذلك انطلاقُه بصلاحيّاته
المخوّلةِ له بلا حدود قد يُحدِث تصادُمًا يهلِك فيه الطرف الأضعف ، وهو بلا شكّ
الإنسان . ولكنّه حينما تُعرَض عليه حكمة في الكون فإنّه يُدرِكها ويستوعبها ،
ولكنّ هذا قد لا يكون متاحًا على الدوام ، فقد تكون الفطنة للحكمة عن طريق الوحي
أو مصادفات من توفيق الله ، ولولاه ما انتبهنا وفطنّا ، فمن أظهر ضعف الإنسان
وأكثره إصابةً به النسيان والغفلة .
إن جانب التطور في الإنسان والذي يجعله في
مرتبة من مفهوم الإله – وهذا المفهوم متماشٍ مع ثقافتنا الإسلاميّة ، فما
الاستخلاف إلا ترجمةٌ له ، إنّنا ها هنا بميزات متفرّدة ليست لكائن آخر ، وذلك
حتّى ننتمي لربنا وخالقنا من خلال عملنا عملَه في الأرض التي استُخلِفنا فيها ،
كالابن الذي يفخَر بابنه الذي يرى فيه نفسه في أجمل صورة وموروث ، ولله المثل
الأعلى – إن هذا الجانب لم يُخلَق لينطلق منفردًا ، بل ليتحدّد بالمادّيّة التي
يشارك فيها الإنسان بقية المخلوقات المعروفة لديه ، بل هو متحدّد بها في الأصْل
والبداية .
إذًا ، لماذا يجب على الإنسان أن يُكبَح
ويتحدد ، بينما هو مؤهّل في الابتداء للانطلاق وعمل الكثير ؟!
الجواب : لأنه يتعامل مع الكون كأنه مَلِك له
ومستقلّ عنه ، بينما هو ليس كذلك ولن يكون .
وإنّ هذه الحدود المعنيّة هنا والتي يجب أن
نتحدد بها لستُ بصدد ذكرها ها هنا ، ولكنّي أرجو أنك تفهمها عزيزي القارئ من خلال
المواقِف والحالات المختلفة ، وبالطبع إنّي لا أقصِد كبح الإنسان من كلّ فطرتِه .
" وأنجيْنا الَّذين ءامنوا وكَانوا يتّقون
" ، والتقوى من العلم بالضعف والاعتراف به والحذر من عاقبته . والله أعلى
وأعلم .
بسّام بن عصام يغمور
جدة
– 18/11/34
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق