المشاركات الشائعة

الثلاثاء، 17 يونيو 2014

قبل رمَضان .. ( من رمضان 1432هـ )

بسم الله الرحمن الرحيم

     الحمد لله السميع العليم ، أنزل القرآن العظيم ، وأرسل الرسول الكريم ، فرحم به العالمين ، وهدى به الصراط المستقيم ، صلى عليه وعلى آله الكرام وأتباعه المحسنين ، ومن سار على الأقوم – إلى يوم الدين .

     أما بعد ..

     فإنها لتبدو لنا ظلال شهر كريم ، يتحرّى حلوله المؤمنون ، ويشتاق إلى نقيّ نفحاته وعظيم فتوحاته المحبُّون .

     وإن القوم الكِرام إذا حل عندهم ضيفٌ أكرموا وبالغوا في الإكرام ، فلا يأتي ضيفُهم فيرى ما يسوء ، ولا يبدُر منهم ما يؤذيه أو ينقص من قدره ، وهم له محترمون مجِلُّون .

     وإن شهرنا الكريم لمن أحق من يُكرَم من الأضياف ، كيف لا وفيه ليلة من قامها إيمانًا واحتسابًا غُفِر له ما تقدّم من ذنبه ؟! وكيف لا وفيه تُصفَّد مردة الشياطين وتُفتَّح أبواب الجنان ، وتغلَّق أبواب النيران ؟! فهذا قدرُه عند الحميد المجيد ، فكيف يكون قدْره عند العبيد ؟!

     فإننا في هذه الكلمات ننبِّه إلى بعض الجوانب الَّتي حريٌّ بمؤمن يخاف على نفسِه من الفوات أن يلمَّ بها ويعرفها ويتنبه لها ، حتى لا يفوت المقصود أو تكون الحسرة للمفقود ، وفي الحديث : " صعد رسول الله المنبر فلما رقي عتبة قال : ( آمين ) . ثم رقي أخرى فقال : ( آمين ) . ثم رقي عتبة ثالثة فقال : ( آمين ) ثم قال : " أتاني جبريل فقال : يا محمد ! من أدرك رمضان فلم يغفر له فأبعده الله .  فقلت : ( آمين ) . قال : و من أدرك و الديه أو أحدهما فدخل النار ... " – إلى آخره ، وصححه الألباني لغيره – ، وذلك باجتهاد ضعيف جدًّا نستقي فيه ممَّا قد أجمل فيه الكتاب والسُّنَّة ، وما الموفِّق إلا الله – سبحانه – .

~*~*~*~

     نحن إذا أقْبل رمضان المبارك ، وقصدْنا المغفرة وارتقاء الدرجات ورضْوان رب البريات والقرب منه ، فإنه علينا أن نتنبَّه من أشياء هي خُطُوات أولى أساسية ، لا يُمكِن أن نتجاوزها ونطلب ما بعدها بدونها ، فقبول الأعمال له نواقض ، واستجابة الدَّعَوات لها نواقض ، وهناك أولويات ينبغي منَّا أن نراعيَها قبلَ كل شيء ، ولئن خرجْنا بها فنِعْمَت وكفى بها .

     من هذه الأُمور :

     سلامةُ القلْب :

     في الحديث عن يومَي الإثنين والخميس قال الحبيب – صلى الله عليه وآله وسلم – من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه وأرضاه – : " ... إن يوم الإثنين والخميس يغفر الله فيهما لكل مسلم ، إلا مهتجرين ، يقول : دعهما حتى يصطلحا " – وصححه الألباني – .

     وفي الحديث عن ليلة النصف من شعبان من حديث معاذ بن جبل – رضي الله عنه وأرضاه – عن رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – : " يطلع الله إلى خلقه ليل النصف من شعبان فيغفر لجميع خلقه إلا مشرك أو مشاحن "  - وصححه الألباني – .

     وفي الحديث المشهور قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – : " إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم " – من صحيح مسلم عن أبي هريرة – رضي الله عنه وأرضاه – .

     وفي حديث الصحابي الذي بُشِّر بالجنة عن أنس بن مالك – رضي الله عنه وأرضاه – قال : " كنا يومًا جلوسا عند رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ، فقال : " يطلع عليكم الآن من هذا الفج رجل من أهل الجنة " . قال : فطلع رجل من الأنصار ينفض لحيته من وضوئه ، قد علق نعليه قي يده الشمال ، فسلم . فلما كان الغد ، قال – صلى الله عليه وسلم – مثل ذلك . فطلع ذلك الرجل . وقاله في اليوم الثالث ، فطلع ذلك الرجل . فلما قام النبي – صلى الله عليه وسلم – ، تبعه عبد الله بن عمرو بن العاص ، فقال له : إني لاحيت أبي ( يعني تخاصما ) ، فأقسمت ألا أدخل عليه ثلاثا . فإن رأيت أن تؤويني إليك حتى تمضي الثلاث فعلت . فقال : نعم . فبات عنده ثلاث ليال ، فلم يره يقوم من الليل شيئا ، غير أنه إذا انقلب على فراشه ذكر الله تعالى ، ولم يقم حتى يقوم إلى صلاة الفجر . قال غير أني ما سمعته يقول إلا خيرًا . فلما مضت الثلاث ، وكدت أن أحتقر عمله ، قلت : يا عبد الله ، لم يكن بيني وبين والدي غضب ولا هجرة ، ولكنى سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول كذا وكذا ، فأردت أن أعرف عملك ، فلم أرك تعمل عملاً كثيرًا . فما الذي بلغ بك ذلك ؟ فقال : ما هو إلا ما رأيت . فلما وليت دعاني فقال : ما هو إلا ما رأيت ، غير أني لا أجد على أحد من المسلمين في نفسي غشًّا ولا حسدًا ، على خير أعطاه الله إياه . قال عبد الله : فقلت له هي التي بلغت بك ، وهى التي لا نطيق " ( قال العراقي : إسناده صحيح على شرط الشيخين ) .

     فعليه ، وقد تأكد لنا من الأحاديث أنَّ من عوائق المغفرة وأسباب ضياع الأعمال وجود الضغائن والشوائب في القلوب ، ينبغي لنا أن نحرِص في أيامنا هذه أن ننقِّيَ القلوب ممَّا يشوبها مما لا يُرضي الله – تبارك وتعالى – .

     فلا نترك في قلوبنا حبًّا لحرام ، لا نترك في قلوبنا حبًّا لنظر محرَّم أو سماع محرَّم ، ولا نترك في قلوبنا حقدًا على مسلم بغير حق ، ولا نترك في قلوبنا ازدراء للمتديّنين أو معاداة لأهل العلم أو أولياء الله ، ولا نترك في قلوبنا سوءًا على والدِينا أو إخواننا ، أو نية بأمر سيِّئ لا يحبُّه الله ولا يرضاه ، ولا تكبُّرًا ، ولا حسدًا ، ولا غشًّا .

     ولنذكر قول الله – عز من قائل – : " وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ * يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ * " ( الشعراء-87 إلى 89 ) ، فحسبك إن سلم قلبُك النجاة في اليوم الآخر .

العبادات التَّعامُلية :

     نقصد بالعبادات التَّعامُلية التعاملَ مع الإخوان والأصحاب والجيران والأهل بشتى أنواع التَّعامل في كل أوقات اليوم ، وتلك العبادات أهمّ من بعض العبادات الشعائرية – كالصلاة والصيام والحج – ، بل قبول تلك الشعائرية مرهونٌ بصلاح العبادات التعامُلية ، فمتى فسد التعامل والخلُق ، خُشِي أن تفسد بقية الأعمال الصالحة .

     ففي الحديث عن أبي هريرة – رضي الله عنه وأرضاه – قال : " قالوا : يا رسول الله فلانة تصوم النهار وتقوم الليل وتؤذي جيرانها . قال : " هي في النار ".  قالوا : يا رسول الله ! فلانة تصلي المكتوبات ، وتصدق بالأثوار من الإقط ( يعني القمح ) ، ولا تؤذي جيرانها . قال : " هي في الجنة " " – وصححه الألباني – .

     وعن أبي هريرة – رضي الله عنه – عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال : " " أتدرون ما المفلس ؟ " قالوا : المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع . فقال : " إن المفلس من أمتي ، يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة ، ويأتي قد شتم هذا ، وقذف هذا ، وأكل مال هذا ، وسفك دم هذا ، وضرب هذا . فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته ، فإن فنيت حسناته ، قبل أن يقضى ما عليه ، أخذ من خطاياهم فطرحت عليه . ثم طرح في النار " " – من صحيح مسلم – .

    وعن أنس بن مالك – رضي الله عنه – عن رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – : " " القتل في سبيل الله يكفر كل خطيئة " ، فقال جبريل : إلا الدين ، فقال النبي – صلى الله عليه وسلم – : " إلا الدين " " – صححه الألباني – .
     وعن جابر بن عبد الله – رضي الله عنهما وأرضاهما – عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – : " اتقوا الظلم . فإن 
الظلم ظلمات يوم القيامة . واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم . حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم " – من صحيح مسلم – .

     فمن الأحاديث السابقة نفهم أنَّ معاملاتنا مع إخوتنا وأخواتنا هي محور هامٌّ جدًّا لقبول الأعمال الأخرى ، فمتى كانت عند أحدنا مظلمة على أحد ، أو كان عاقًّا لوالدَيه – والعياذ بالله – ، أو مسيئًا لجاره ، أو ناهرًا للسائلين ، أو محتقرًا للفقراء ، فإن ذلك يشكِّل خطرًا عليه ، وقد يؤخره هذا مسافات إلى الوراء – حسن الله أخلاقنا وإياكم – .

     فإذا أقبلنا على شهرنا الكريم فلنهذّب أخلاقنا ، ولنفرِد بسُطنا لكل الناس ، أُسْوة بالحبيب – صلى الله عليه وسلم – ، واقتداءً بقول الله – عز وجل – : " وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَىٰ مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُولَٰئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ۚ وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ * " ( آل عمران-133 إلى 136 ) ، وقول الرسول – صلى الله عليه وسلم – : " إن أحبكم إلي و أقربكم مني في الآخرة مجالس أحاسنكم أخلاقًا ، و إن أبغضكم إلي وأبعدكم مني في الآخرة أسوؤكم أخلاقًا ، الثرثارون المتفيهقون المتشدقون " – وصححه الألباني – .

الاستقْبال بالعمل الصالح ومبادرة الشهر به :

     نقصد أنَّنا – ما دام ضيفُنا الكريم قريب النزول – إن شاء الله – فلنبادِرْ بالأعمال الصالحة حتى قبل أن ينزل بنا ، لأن الله – سبحانه وتعالى – إذا علم منك الإخلاص والإقبال أقبل عليك وزادك من فضله ، كما في الحديث القدسي العظيم : " ومن تقرب إلي شبرًا ، تقربت إليه ذراعًا.  ومن تقرب إلي ذراعًا ، تقربت إليه باعًا.  وإذا أقبل إلي يمشي ، أقبلت إليه أهرول " – من صحيح مسلم – .

     كما أنَّك إذا قدمت بين يدي الشهر بالأعمال الصالحة من صدقة ودُعاء وحضور قلب وهيأت قلبَك ونفسك للإصلاح والإقبال على الله – جل وعلا – فإنك بهذا كأنك قد تأهَّلْت للشهر الكريم ، فليس بعيدًا عنك أن تجتهد أكثر ويكون لك نصيب من السعي في رضوان الله والفوز بما عنده – تبارك وتعالى – بإذنه . واللهُ أعلم .

     وهذه الروح ليست إلا من تعظيم الشهْر الذي عظمه الله – سبحانه – وعظمه رسوله – صلى الله عليه وسلم – واجتهد فيه وأصحابُه – رضي الله عنهم وأرضاهم – ، وقد قال – سبحانه وتعالى – : " ذَٰلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ " ( الحج-30 ) ، وقال – جل من قائل – : " ذَٰلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ " ( الحج-32 ) .

~*~*~*~

     فتي – أُخَيَّ – ملاحظات بسيطة ، لعلها تجبُر كسرًا أو تنبه غفلة ، والله من وراء القصد .

     فوّزنا الله بفضله في رمضان ، وبلغنا فيه خير ما يحب أن يُبلَغ فيه ، ووفقنا لما يحب ويرضى ، وفتح لنا به الفتح المبين ، ونصرنا النصر العزيز ، وجعل حالنا فيه وبعده خيرًا من حالنا قبلَه ، ولا ردنا إلى سوء ، إنه هو القدير ، وهو الغفور الرحيم ، وذو الجلال والإكرام .

     والحمد لله كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ويرضى ، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه ومن والاه .

     والله – تعالى – أعلم .



مكة – 29/8/32

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق