بسم
الله الرحمن الرحيم
الحمد لله السميع العليم ، أنزل القرآن العظيم ، وأرسل الرسول الكريم ، فرحم به العالمين ، وهدى به الصراط المستقيم ، صلى عليه وعلى آله الكرام وأتباعه المحسنين ، ومن سار على الأقوم – إلى يوم الدين .
أما بعد ..
فإنها لتبدو لنا ظلال شهر كريم ، يتحرّى حلوله المؤمنون ، ويشتاق إلى نقيّ
نفحاته وعظيم فتوحاته المحبُّون .
وإن القوم الكِرام إذا حل عندهم ضيفٌ أكرموا وبالغوا في الإكرام ، فلا يأتي
ضيفُهم فيرى ما يسوء ، ولا يبدُر منهم ما يؤذيه أو ينقص من قدره ، وهم له محترمون
مجِلُّون .
وإن شهرنا الكريم لمن أحق من يُكرَم من الأضياف ، كيف لا وفيه ليلة من
قامها إيمانًا واحتسابًا غُفِر له ما تقدّم من ذنبه ؟! وكيف لا وفيه تُصفَّد مردة
الشياطين وتُفتَّح أبواب الجنان ، وتغلَّق أبواب النيران ؟! فهذا قدرُه عند الحميد
المجيد ، فكيف يكون قدْره عند العبيد ؟!
فإننا في هذه الكلمات ننبِّه إلى بعض الجوانب الَّتي حريٌّ بمؤمن يخاف على
نفسِه من الفوات أن يلمَّ بها ويعرفها ويتنبه لها ، حتى لا يفوت المقصود أو تكون
الحسرة للمفقود ، وفي الحديث : " صعد رسول الله المنبر فلما رقي عتبة قال : ( آمين ) . ثم رقي أخرى فقال : ( آمين ) . ثم رقي عتبة ثالثة فقال
: ( آمين ) ثم قال : "
أتاني جبريل فقال : يا
محمد ! من أدرك رمضان فلم يغفر له فأبعده الله . فقلت : ( آمين ) . قال : و من أدرك و الديه أو أحدهما فدخل النار ... " – إلى آخره ، وصححه
الألباني لغيره – ، وذلك باجتهاد ضعيف جدًّا نستقي فيه ممَّا قد أجمل فيه الكتاب
والسُّنَّة ، وما الموفِّق إلا الله – سبحانه – .
~*~*~*~
نحن إذا أقْبل رمضان المبارك ، وقصدْنا المغفرة وارتقاء الدرجات ورضْوان رب
البريات والقرب منه ، فإنه علينا أن نتنبَّه من أشياء هي خُطُوات أولى أساسية ، لا
يُمكِن أن نتجاوزها ونطلب ما بعدها بدونها ، فقبول الأعمال له نواقض ، واستجابة
الدَّعَوات لها نواقض ، وهناك أولويات ينبغي منَّا أن نراعيَها قبلَ كل شيء ، ولئن
خرجْنا بها فنِعْمَت وكفى بها .
من هذه الأُمور :
سلامةُ القلْب :
في الحديث عن يومَي الإثنين والخميس قال الحبيب – صلى الله عليه وآله وسلم –
من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه وأرضاه – : " ... إن يوم الإثنين والخميس يغفر الله
فيهما لكل مسلم ، إلا مهتجرين ، يقول : دعهما حتى يصطلحا " –
وصححه الألباني – .
وفي الحديث عن ليلة النصف من شعبان من حديث معاذ بن جبل – رضي الله عنه
وأرضاه – عن رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – : " يطلع الله إلى
خلقه ليل النصف من شعبان فيغفر لجميع خلقه إلا مشرك أو مشاحن
" - وصححه الألباني – .
وفي الحديث المشهور قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – : " إن الله لا
ينظر إلى صوركم وأموالكم ،
ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم
" – من صحيح مسلم عن أبي هريرة – رضي الله عنه وأرضاه – .
وفي حديث الصحابي الذي بُشِّر بالجنة عن أنس بن مالك – رضي الله عنه وأرضاه
– قال : " كنا يومًا جلوسا عند رسول الله – صلى الله عليه وسلم –
، فقال : " يطلع
عليكم الآن من هذا الفج رجل من أهل الجنة " . قال : فطلع رجل من الأنصار
ينفض لحيته من وضوئه ، قد علق نعليه قي يده الشمال ، فسلم . فلما كان الغد ، قال –
صلى الله عليه وسلم – مثل ذلك . فطلع ذلك الرجل . وقاله في اليوم الثالث ، فطلع
ذلك الرجل . فلما قام النبي – صلى الله عليه وسلم – ، تبعه عبد الله بن عمرو بن العاص
، فقال له : إني لاحيت أبي ( يعني تخاصما ) ، فأقسمت ألا أدخل عليه ثلاثا . فإن
رأيت أن تؤويني إليك حتى تمضي الثلاث فعلت . فقال : نعم . فبات عنده ثلاث ليال ،
فلم يره يقوم من الليل شيئا ، غير أنه إذا انقلب على فراشه ذكر الله تعالى ، ولم
يقم حتى يقوم إلى صلاة الفجر . قال غير أني ما سمعته يقول إلا خيرًا . فلما مضت
الثلاث ، وكدت أن أحتقر عمله ، قلت : يا عبد الله ، لم يكن بيني وبين والدي غضب ولا هجرة ، ولكنى سمعت رسول الله – صلى
الله عليه وسلم – يقول كذا وكذا ، فأردت أن أعرف عملك ، فلم أرك تعمل عملاً كثيرًا
. فما الذي بلغ بك ذلك ؟ فقال : ما هو إلا ما رأيت . فلما وليت دعاني فقال : ما هو
إلا ما رأيت ، غير أني لا أجد على أحد من المسلمين في نفسي غشًّا ولا حسدًا ، على خير أعطاه الله إياه . قال عبد
الله : فقلت له هي التي بلغت بك ، وهى التي لا نطيق " ( قال العراقي :
إسناده صحيح على شرط الشيخين ) .
فعليه ، وقد تأكد لنا من الأحاديث أنَّ من عوائق المغفرة وأسباب ضياع
الأعمال وجود الضغائن والشوائب في القلوب ، ينبغي لنا أن نحرِص في أيامنا هذه أن
ننقِّيَ القلوب ممَّا يشوبها مما لا يُرضي الله – تبارك وتعالى – .
فلا نترك في قلوبنا حبًّا لحرام ، لا نترك في قلوبنا حبًّا لنظر محرَّم أو
سماع محرَّم ، ولا نترك في قلوبنا حقدًا على مسلم بغير حق ، ولا نترك في قلوبنا
ازدراء للمتديّنين أو معاداة لأهل العلم أو أولياء الله ، ولا نترك في قلوبنا
سوءًا على والدِينا أو إخواننا ، أو نية بأمر سيِّئ لا يحبُّه الله ولا يرضاه ،
ولا تكبُّرًا ، ولا حسدًا ، ولا غشًّا .
ولنذكر قول الله – عز من قائل – : " وَلَا
تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ * يَوْمَ
لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ * " ( الشعراء-87 إلى 89 ) ، فحسبك
إن سلم قلبُك النجاة في اليوم الآخر .
العبادات التَّعامُلية :
نقصد بالعبادات التَّعامُلية التعاملَ مع الإخوان والأصحاب والجيران والأهل
بشتى أنواع التَّعامل في كل أوقات اليوم ، وتلك العبادات أهمّ من بعض العبادات
الشعائرية – كالصلاة والصيام والحج – ، بل قبول تلك الشعائرية مرهونٌ بصلاح
العبادات التعامُلية ، فمتى فسد التعامل والخلُق ، خُشِي أن تفسد بقية الأعمال
الصالحة .
ففي الحديث عن أبي هريرة – رضي الله عنه
وأرضاه – قال : " قالوا : يا رسول الله فلانة تصوم
النهار وتقوم الليل وتؤذي جيرانها . قال
: " هي في النار ". قالوا : يا رسول الله ! فلانة
تصلي المكتوبات ، وتصدق بالأثوار من الإقط ( يعني القمح ) ، ولا تؤذي جيرانها .
قال : " هي في الجنة " " – وصححه الألباني – .
وعن أبي هريرة – رضي الله عنه – عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال :
" " أتدرون ما المفلس ؟ " قالوا : المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع . فقال : " إن المفلس من أمتي ، يأتي يوم القيامة بصلاة
وصيام وزكاة ، ويأتي قد شتم هذا ، وقذف هذا ، وأكل مال هذا ، وسفك دم هذا ، وضرب
هذا . فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته ، فإن فنيت حسناته ،
قبل أن يقضى ما عليه ، أخذ من خطاياهم فطرحت عليه . ثم طرح
في النار " " – من صحيح مسلم – .
وعن أنس بن مالك – رضي الله عنه – عن رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم –
: " "
القتل
في سبيل الله يكفر كل خطيئة " ، فقال جبريل : إلا الدين ، فقال النبي – صلى الله عليه وسلم – : " إلا الدين " " – صححه الألباني – .
وعن جابر بن عبد الله – رضي الله عنهما وأرضاهما – عن رسول الله – صلى الله
عليه وسلم – : " اتقوا الظلم .
فإن
الظلم ظلمات يوم القيامة
. واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان
قبلكم . حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم " – من صحيح مسلم – .
فمن الأحاديث السابقة نفهم أنَّ معاملاتنا مع إخوتنا وأخواتنا هي محور
هامٌّ جدًّا لقبول الأعمال الأخرى ، فمتى كانت عند أحدنا مظلمة على أحد ، أو كان
عاقًّا لوالدَيه – والعياذ بالله – ، أو مسيئًا لجاره ، أو ناهرًا للسائلين ، أو
محتقرًا للفقراء ، فإن ذلك يشكِّل خطرًا عليه ، وقد يؤخره هذا مسافات إلى الوراء –
حسن الله أخلاقنا وإياكم – .
فإذا أقبلنا على شهرنا الكريم فلنهذّب أخلاقنا ، ولنفرِد بسُطنا لكل الناس
، أُسْوة بالحبيب – صلى الله عليه وسلم – ، واقتداءً بقول الله – عز وجل – :
" وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا
السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي
السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ
ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ
إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ
فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ
يُصِرُّوا عَلَىٰ مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُولَٰئِكَ جَزَاؤُهُمْ
مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ
خَالِدِينَ فِيهَا ۚ وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ * " ( آل عمران-133 إلى 136 ) ،
وقول الرسول – صلى الله عليه وسلم – : " إن أحبكم إلي و أقربكم مني في
الآخرة مجالس أحاسنكم أخلاقًا ، و إن
أبغضكم إلي وأبعدكم مني في الآخرة أسوؤكم أخلاقًا ، الثرثارون
المتفيهقون المتشدقون " – وصححه الألباني – .
الاستقْبال بالعمل الصالح ومبادرة
الشهر به :
نقصد أنَّنا – ما دام ضيفُنا الكريم قريب النزول – إن شاء الله – فلنبادِرْ
بالأعمال الصالحة حتى قبل أن ينزل بنا ، لأن الله – سبحانه وتعالى – إذا علم منك
الإخلاص والإقبال أقبل عليك وزادك من فضله ، كما في الحديث القدسي العظيم : "
ومن
تقرب إلي شبرًا ، تقربت إليه ذراعًا.
ومن تقرب إلي ذراعًا ، تقربت إليه باعًا.
وإذا أقبل إلي يمشي ، أقبلت إليه أهرول " – من صحيح مسلم – .
كما أنَّك إذا قدمت بين يدي الشهر بالأعمال الصالحة من صدقة ودُعاء وحضور
قلب وهيأت قلبَك ونفسك للإصلاح والإقبال على الله – جل وعلا – فإنك بهذا كأنك قد
تأهَّلْت للشهر الكريم ، فليس بعيدًا عنك أن تجتهد أكثر ويكون لك نصيب من السعي في
رضوان الله والفوز بما عنده – تبارك وتعالى – بإذنه . واللهُ أعلم .
وهذه الروح ليست إلا من تعظيم الشهْر الذي عظمه الله – سبحانه – وعظمه
رسوله – صلى الله عليه وسلم – واجتهد فيه وأصحابُه – رضي الله عنهم وأرضاهم – ،
وقد قال – سبحانه وتعالى – : " ذَٰلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ
اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ " ( الحج-30 ) ، وقال – جل من
قائل – : " ذَٰلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى
الْقُلُوبِ " ( الحج-32 ) .
~*~*~*~
فتي – أُخَيَّ – ملاحظات بسيطة ، لعلها تجبُر كسرًا أو تنبه غفلة ، والله
من وراء القصد .
فوّزنا الله بفضله في رمضان ، وبلغنا فيه خير ما يحب أن يُبلَغ فيه ،
ووفقنا لما يحب ويرضى ، وفتح لنا به الفتح المبين ، ونصرنا النصر العزيز ، وجعل
حالنا فيه وبعده خيرًا من حالنا قبلَه ، ولا ردنا إلى سوء ، إنه هو القدير ، وهو
الغفور الرحيم ، وذو الجلال والإكرام .
والحمد لله كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ويرضى ، وصلى الله وسلم على
عبده ورسوله محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه ومن والاه .
والله – تعالى – أعلم .
مكة – 29/8/32
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق