باسم
الله
لكَ أسلمْتُ
..
إنّي أنا ابنُ آدمَ ، ذلك الكائن الوحيد
الذي خرج بعقله عن حدود عقله ، فسّر الكونَ ، وحاكاه ، وتنبّأ به ، وكتبه على ورق
.. وإنْ لم يكملْ هذا المشوار ..
إنّي أنا الكائن الذي عرَف القِيَم ، يعتنق
مفهوم العورة ، ويسترها ، يعشق النبْل والشرف ، وينفر من الفساد والهوان والشرّ ..
عالي الهمّة ، يذلّ نفسَه في سبيل المعالي ،
يضحّي بذاته من أجل غيره ، اصطنع لنفسه مصطلح " الإنسانيّة " لتعبّر عن
أسمَيَاتٍ من ذُرا العطف والرحمة والتكافُل والشفقة ..
خُلِقتُ كائنًا فريدًا بين كلّ ما أعرفه ،
وخُلِقتُ وتكوّنت – ولو مع الزمن والمحيط – لأكونَ شريفًا قديرًا ..
ولكنّني أحقُر عندما أتبصّر في صُنعِك
عندَما أتبصّر وأترقّى في معرفتي بخلقِك ،
وحكمتك فيه ، ورحمتك بنا في ثناياه ، وتدبيرك لنا قبلَ وجوده ، وتسييرك له منذ
قِدَم ..
وكيف لا أذهَل بعد ، وقد علمتُ أنّك تمسك
السماوات والأرضَ أن تزولا ، وأنت ممسكهما كل حين ولحظة ؟! ولئن زالتا إن أمسكهما
من أحدٍ من بعدك ..
سبحانك ..
اصطلحوا مصطلحاتٍ من اجتهادهم المحدود ..
سمّوهُ تعقيدًا ، سمّوه تصميمًا ذكيًّا ، سمّوه طبيعة خارقة .. ولكنّني لا أستسيغ
أن أملي اصطلاحاتِنا على صنعك في أوّل الأمر .. وأنتَ الحكيم ، وأنتَ السّرّ
والأول والآخر ..
غرّني قِصَر نظري وانحداد إدراكي ، فتساءلت
مرةً – وأنت العفو الذي يحب العفو – : " هل كان يمكن للكون أن يكون على غير
هذا النظام ؟ أم لا يمكن سوى ما هو كائن ؟ " .. وما وعَيْتُ سذاجتي حينئذ ..
فقد صدق من قال أنك العالم بما كان والعالم بما يكون والعالم بما لم يكن لو كان
كيف كان يكون ..
ما وضعتَ النظام المتوحّد هذا لعجزٍ أو
آليّة عمياء .. سبحانك يا عفو .. ولكنّها حكمتُك ، ودلالتنا عليك بخلقك ، حتّى
ألحدُ عبادك دللتهم .. وما ندري كيف صنعتَ فيما سوى كوننا هذا ، وأيّ خلقٍ خلقت ،
أم أنّك لم تخلقْ غير هذا ..
تعلّم بعضٌ منّا الاحتمالات ، فغرّته هي
الأخرى ، وقال أنّ خلقَك ليس فيه من حكمة ، وإنّما العمى المطلَق ، والصّدفة
البليدة .. سبحانك ..
ولكنّكَ في كل دقيقةٍ تحدّثنا وتبصّر الأعمى
منّا بأنّك هناك ، وراء كل شيء وفوقه .. لم يخلُ منك شيء ..
بك ازدانت الذرات والخلايا .. وحكتْ لنا
عنكَ كثيرًا ، رحمةً ولطفًا وقدرةً وقربًا وحكمة .. ولا نحيط بشيء من علمك .. إلا
بما شئت ..
غرّني قصوري أخرى .. فتساءلت إنْ كنت – يا
ذا الجلال ! – ذا عقل يحاكي عقلَنا ، يعالج ويتراجع ، واستبعدْتُ ذلك .. وكنتُ
جاهلاً سفيهًا قاصرًا ولو أحسنتُ القصد والسبيل .. بسِرّ من لدُنْك وعطيّة – يا ذا
الجلال – وهبتَنا عقلاً هو العقل نفسه الذي خلقت على ناموسه كونَنا أو جلّ كوننا
.. به نتخيّل ونتجاوز كلّ مادة ووجود .. فإذا كنّا كذلك .. فيا ذا الجلال ، كيف
أنتَ ؟! .. حتّى في خيالنا المحلّق ، نسجُد لك .. نسلم لك ..
ويا لرعدة فرائصي ، من تخيّلي لما يشكّله
ذلك من علمك وحكمتك .. علّمتني – يا ذا الجلال والإكرام – أنّ كونَنا هذا لا شيءَ
من حكمتك .. إنّ خطبةً مرتجلَة أو تحفة فنية يقوم بها أحد الماهرين بأيّ هذين
الفنّيْن في ساعةِ فراغ دونَما استنفاد لكلّ طاقته وملكاته لهو مثَل كوننا من علمك
وقدرتك وحكمتك .. ولك المثَل الأعلى .. وأنتَ العفوّ ..
إنّني أنا الكائن الذي خوّلته للتفكير ،
والتغيير ، حمّلتَه الأمانةَ وأودعْتَه من أسرارك ..
طفْت في أنحاء خلقِك .. وعزّتك لم أجد لي
إلا أن أسلِمَ لك ..
أسلمتُ شكرًا .. أو تعظيمًا وتقديرًا .. أو
محبّةً .. أو تقرّبًا .. أو خوفًا ..
بل إنّني أسلمُ لكلّ ذلك ..
أسلِمُ لك ؛ لأنّك عرفتَني بمنّتك أنْ ليس
هناك سواك .. قدرةً ونفاذًا وإحاطة وإعجازًا ..
وإنّني وإن بلغتُ ما بلغتُ في خلقِك – يا ذا
الجلال – فإنني عاجزٌ العجزَ كلَّه .. وعرفانًا منّي بما علّمتني ..
فأنا لكَ أسلمتُ ، إسلامَ من تيقّن جهله
أمام العالِم الحبْر ، ومن تيقّن عجزه أمام الرجل فائق القوة ، وإسلام من تيقّن
خرقَه أمام الحاذق الحكيم .. ولك المثَل الأعلى ، وأنتَ العفوّ ..
ولا يزيدُني خاتَم كتبِك وخاتمة رسالاتك
إلاّ إمعانًا في التعظيم والتسبيح والسجود والإسلام .. إنّ خلقَك في خطابك يبدو
ويتجلّى ، ولِباسُ الأمر والنهي فيه لكونِك صُنِع وعلى بدَنه فُصِّل ، وجلالُك في
الاثنَين حالّ .. لكَ الحمدُ بما دللتني عليك من كلّ سبيل .. يا من هو الأحد ..
الصمد .. الذي لم يلد .. ولم يولد .. ولم يكنْ له كفوًا أحد .. بلّغنا يا ربِّ ..
لكَ أُسلِم ، لك أسجد بقلبي كلّ حين يحيَا
فيه قلبي ، متأسيًا بملائكتك وملئك الأعلى وأهل العرفان بك .. وأنا الجاهل القاصر
..
لك أسلمتُ
وتتنزّل على قلبي عظمة لا تنتهي
..
اللهم صلّ وسلم على من دللتنا به عليك وآله
وصحبه ومن أحبّ أبدَ الآبدين
اللهم وأعنّا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك ،
وأوزعنا أن نشكر نعمتك التي أنعمت علينا وعلى والدِينا ، وأن نعمل صالحًا ترضاه ،
وأدخلنا برحمتك .. في عبادك الصالحين .. وأصْلِحْ لنا في ذرّيّاتِنا .. إنّا تبْنا
إليك .. وإنّا من المُسْلِمين
24/12/1434 – 11:22م
العبد ..
بسّام بن عصام يغمور – جدّة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق