المشاركات الشائعة

الجمعة، 20 يونيو 2014

الحنين إلى المعنى

بسم الله الرحمن الرحيم

الحنِين إلى المعنى

     تخيّل أحداثًا شبيهة بعدم مقابلة شخص قريب ما مرةً أخرى إلى الأبد ، أو ضياع دفتر ذكريات ، أو فقدان الصورة الوحيدة لشخص عزيز عليك ماتَ منذ زمن ، أو ربما – وهذه الفكرة الأقرب لموضوعنا – فقدان المشاعر الدافئة بينك وبين شخصٍ ما أو الابتعاد لفترة طويلة عن هذا الشخص ...

     هذه المواقِف معقولة ومعهودة ومفهومة جدًّا ، قد يصل البعض إلى مرحلةٍ لا يأبهون فيها بـ" بعض " هذه الأمور ولكنّ بعضَها لا يمكن أن يُهمَل أو يُتجاهَل ، ولكنْ هل فكّرت أنّ عقلك هذا المكوّن من خلايا مكونة من الفوسفات والبروتينات والسكريات تسري فيها كهرباء ، وهو مادّة جامدة – هل فكّرت أنّ هناك العديد من المواقف الذهنيّة والمعنويّة تصيب عقولنا بنفس حالة الحنين تلك ، وأنّ هذا يفسّر العديد من التصرّفات ؟!

     قد يكونُ هذا شبيهًا بمعرفتنا لأن سببي السرور هما هرمون الدوبامين وهرمون السيروتونين لا غير ، من حيثُ أننا نكتشف الصورة الحقيقيّة الأبسط والأكثر قابلية للفهم والإدراك للأحداث الكونيّة حولنا .

     إنّ سعيَ العقل الدؤوبَ لأن يحتويَ كلّ شيء يمرّ عليه ، وأن يفهمَ معناه أو يحفظَه ، وأن يقوم فيه بما يراه صوابًا وحقًّا ، هو مثل سعيِنا ككلّ لحفظ تلك الأشياء المادية غالبًا ، والتي نعدّها ثمينة وغالية عندنا ، مثل الصورة والمذكرات والأشخاص ... ، حتّى إنّنا – كدليل على هذا – في غالب الأحيان لا يمكن أن نسلّم لأمرٍ ما دونَ أن نفهمَه ونفهمَ مبرّراتِه وأسبابَه ، قد يصيبنا هذا بانزعاج شديد ربما على صورة اكتئاب أحيانًا – لأولئك الذين يهتمّون بذواتهم وعواطفهم – أو على صورة استمرارٍ حثيث مع إرادة غير محدودة لفَهم ذلك الأمر أو استيعابه أو حفظِه بصورة أو أخرى – حفظه في الذهن أو امتلاكه كمادّة – ، حتى يشعُر العقل بأنه نالَ ذلك الشيء وأصبَح ملكًا لهُ ولن يضيعَ ، فيطمئنّ ، وهذا في الحقيقة يبدو أنّه يختلِف باختلاف تجارب الأشخاص في الطفولة حيثُ صارتْ أمور معيّنة تشكّل لهم أهمّيّة أكثر من الأمور الأخرى فينشأ تفاعل متميّز تجاه الأمور المشابِهة لها أكثر من غيرها . وربما كان صورةً واضحةً لذلك أولئك الأشخاص الفضوليّون الذين يسعَون لمعرفة كلّ شيء ، وكشف كلّ غامض ، وإننا في الحقيقة جميعًا نولد فضوليّين ، ونحن لأجل هذا مؤهّلون جميعًا لأن نكون باحثين علميّين أكْفاء ، ولكنّ المحيط واستجابتنا وتسليمنا له إذا كان محبطًا نوعًا ما فإنه يقود لضمور هذا الفضول شيئًا ما .

     بل حتّى شعورنا بالحنين نحو الماضي ، ونحو شخصيّاته ، أو حبّنا وترديدنا لألحان معيّنة ، هما مظهران من مظاهِر هذا الحنين الدماغيّ إلى المعنى وإدراكه ، بسبب أنّ تلك الألحان لم نستطيع أن " نفهمها " و- بالمثل في تقديري – أنّ تلك الذكريات لم نعطِها حقّها أو لم ندركْها تمامًا ، كما يذكر ذلك البرنامج اليوتيوبيّ الشيّق " ـي صوص صوص ﭬـي Vsauce " في حلقة " لماذا نشعر بالحنين ؟ - Why do we Feel Nostalgia ? " .

     إنّه إذًا طبيعة وفطرة ، إنّه إذًا شيء صحيح وسليم .

     وإنّه قد يكون فوقَ ذلك هو القائد الفعليّ لكثير من التحوّلات في حضارات الإنسان على مرّ التاريخ . كيف لا والدافع لكلّ ثورة وكلّ حركة هو الحسّ بواجب تلبية صوت العقل ومنطِقه ، ورفض كبحِه وكبته وإرغامِه على ما لا يُدرِك وما يرى أنّه لا يمكن استيعابه أو تبريره . وفي الحقيقة أنّ لهذا الحنين مظاهرَ أكثر بساطة ولطفًا ، في حيواتنا اليوميّة أو تجاربنا الصغيرة العابرة .

     ناهيكَ عن أنّ من أشدّ أنواع الجحيم المعنوي الذي يعيشُه أحدهم الخواء الحسّي وبالتالي المعنويّ ، وما تتوصّل عقولنا إلى المعاني إلا بالمرور عبر الحسّ سماعًا أو إبصارًا أو غير ذلك . إننا ننفِر أشدّ النفور من حالةٍ لا تشبع تلك الحاجة المستمرّة للإحساس ، ونرضخ أحيانًا كثيرة لهذه الحاجة ، فنجد أنفسُنا منجذِبين لما يشبع حواسّنا ويعطينا إحساسًا بأيّ شيء ، وإن هذا ينطبِق في كثير من الأمور إن تغاضينا عن التعبير بـ" كل الأمور " ، بل إنّه ربما لن نقوم بأي عمَل ولن نواظب على أي عادةٍ إلا إذا كان ذلك يعطينا إحساسًا ما ، يملأ الفراغ الفطري بدواخلنا ، وكلّما قوي الشعور الذي يعطيناه ذلك ووضَح كلّما كانت جاذبيّتُه أكثرَ وممارستُه أسهل بل أمتع .

     ولكنْ أليس هناك منْ يسلّم لكثير من الأمور ولا يلبّي نداء العقل وحنينه هذا ، أو ربما لا يجِد في عقلِه أصلاً مناديًا للفهم والاستيعاب والإدراك والنّيل من المعاني ؟! " قد " يكون هذا واقعًا ، ولكنّه – إن كان – قطعًا غير صحّي ؛ لأنّه أولاً صفة غير طبيعيّة بل مكتسَبة من خلال واقع غير سليم ، ولأنّه – كبرهان عمليّ أنه غير صحي – يقودُ لضلالات وأمور غير ضروريّة أو أمور ضارّة ، وبلا مبرّر ولا سبب ولا مرجعيّة موثوقة ، وكيْف يمكِن أن يعيش البشَر في عالم لا يحكمُه المنطِق والإيمان المبني على الثّقة المتبصّرة ، على الأقلّ في الأمور التي كُلّف البشر بالقيام بها – وهي كثيرة – ؟! علاوةً على أنّه كلّما طال العهد على هذا وكلّما توسّع الأمر ، فإنه سيقود في النهايات إلى ثورات عنيفة قويّة من قِبَل أشخاص يُعمِلون عقولهم ويؤمنون بها وبأهليّتها والمسئولية المنوطة بها ، وهذا الصنف لا بدّ أن يأتي عما قريب أو بعيد ، فوجَب احتسابُه .

     تخيّل أنّك فهمتَ كلّ شيء تقابلُه ، وأنّ كلّ ما تقابلُه لا يخرُج عن أُطُرك الفلسفيّة التي تفسّر بها الأشياء بشكل عميق نابع من عقلك الصافي بالفعل والحقيقة ، وأنّك نلتَ كلّ المعاني الّتي انشغل بها عقلك وأحبّها يومًا ، ألن تكون تلك أعظم اللذائذ لكائن بشريّ ؟! ولكنّ هناك إشكالاً لا يمّحي هنا ، إنّ هناك الكثيرين ممّن يفسّرون العالَم تفسيراتٍ مختلِفة ، وكثير منهم قد يصِل لتلك المرحلة ظاهريًّا ، ولكنّها حقيقة لا تمّحي أيضًا أنّه لا يشعر بتلك اللذة على حقيقتها ومداها إلا من لم يصدِر أحكامه على عالمه إلا من صميم عقله وبتجربةٍ واختبار متجرّد غير مصحوب بصوَر دخيلة ، وبعقله هو لا عقل غيره ، أيْ أنّه لبّى حاجَتَه عمليًّا وفعليًّا ، لا ظاهرِيًّا ولفظيًّا ، أضفْ إلى هؤلاء أولئك الّذين تخلّوا وتنازلوا عن أحلامهم ومعانيهم التي كانت يومًا تعني لهم شيئًا ما .

     ها نحن ذا نعودُ للحاجات الإنسانيّة التي لا يأبَه بها إلا قليل ، على الأقل في المجتمعات التي لم تصلْ للحضارة المبتغاة ؛ لأنّ عامة أفرادها لم يلبّوا نداءهم الداخليّ الذاتيّ الحقيقي . تلك الحاجات الإنسانية الكفيلة بأن تجعلنا نعيش في عالم أجمل ما يكونُ انسجامًا وخيريّة ، وليت شعري ما الذي يدفعُنا لأن نهمِل الفطرة والمرجِع الذي يجيب على أكبر الأسئلة ، سؤال : ما هو الصحيح والخيّر ، وما هو الخطأ والشرير ؟ مع كتاب الله الذي لا يجاوز أن يعيدَنا لأصواتنا الداخليّة الفعليّة ويحفّزها ويدفعَها للأمام ، ويبيّن لنا الأمور المتشابهات التي قد لا تستطيع عمليّة التفكير الإنسانية عادةً أن تصل لما ينبغي حيالها ابتداءً أو قد تختلِف فيها وجهات النظر دون فيصل ملموس مُدرَك ؟ ولكنّ من يرفِض هذه الحقيقة الجميلة البسيطة الظاهرة كثير ، فممن يرفِضها عمليًّا ، وممن يرفِضها حتى نظريًّا .

     فما أجمل الواقع والكون كما هما ، لو أنّنا استمعْنا لحقائقهما المجرّدة وجواهرهما الكامنة في قلوبهما .. أليس الله قد أودَع خلقَه حقًّا من جمالِه وقُدسيّته ، على الأقلّ زينةً له ؟! فليتَ شعري ما قيمةُ الحياة كلّها إذا كانتْ خاليةً من هذه البقية من الخالق ، الجوهر والحقيقة ؟!


بسّام بن عصام يغمور

جدّة – 11/11/1434 – 2:12م

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق