المشاركات الشائعة

الاثنين، 23 يونيو 2014

تأمّلات في الرُّوح ..

باسم الله

تأمُّلات في الرّوح

     الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبيَّ بعده ، وآله وصحبه ومن والاه .

     أما بعدُ ..

     فنحمد الله – تبارك وتعالى – أنّنا كمؤمنين مسلمين نؤمن بالرّوح ، ونؤمن تبعًا لذلك أنّنا لا ننتمي كليًّا لعالم المادّة المَقِيس ، ولكننا أرواح محتجزة في أجساد إلى أمدٍ قريب ، ثم مصير هذه الروح للخروج من الجسد والخلود ، بينما الجسد يتحلّل وتدور عناصره المتحللة في دورات الطبيعة المختلفة إلى أن يطوي الخالق – سبحانه – السماوات والأرض ويقيم القيامة .

     وأعتبر أنّنا بهذا الإيمان قد قطعنا شوطًا ليس هيِّنًا في سبيل الفهم المنطقي والمعقول لعالمنا والحياة ، والذي قد لا نصل إليه لو سلكنا طريق العلم البحت وحده . لأنّنا فعلاً لسنا نختار أجسادنا ، ولسنا نملكُها في الحقيقة ، وحتى أننا لا نعرف عنها كلّ شيء إلا بطريق الاكتساب الشاق في أحيان كثيرة .

     لنفهمَ ذلك ، نتساءل : هل نظرتَ يومًا في يدك ، وفكّرت : ما الذي جعلها على هذا النحو ؟ لماذا قد تبدو غريبة لولا أنني تعوّدت عليها ؟ ألم تنظرْ لها يومًا من الأيّام ولم تتصوّر أن بها تلك الخلايا الصغيرة المعقدة جدًّا ، وأنّ تلك الأظفار ما هي إلا مادة الشَّعر نفسها ، وأنّ في داخل كل تلك الخلايا شرائط طويلة جدًّا تشكّل هويّتك ، ملتفة بشكل معقد بديع داخل نواتها ، وأنّ كل الخلايا لديها نفس ذلك الشريط ، ولكنها تختلف في وظائفها مع ذلك ؟

     ألم تصبْ بالمرض يومًا ما ، ولم تعلمْ ما السّبب من ورائه ، وكلّ ما تتمنّاه في ذلك الوقت أن تستعيد صحّتك لتؤدي وظائفك على ما تريد ؟ ثم اكتشفت أنّ خلايا جسدك تقاوم أمراضًا لم تعلم عنها يومًا ، ولذلك تصاب بالحمّى ويتعطّل جزء من تفكيرك ويتعكّر مزاجك وتضيق دنياك ، وكأن تلك الخلايا كائنات عاقلة أخرى تقوم بحمايتك عوضًا عنك وبلا أي تدخّل منك ؟

     إنّنا فعلاً عند تأمّلنا لطبيعتنا وهويّتنا نلاحظ أننا لسنا أجسادنا ، إننا شيءٌ ما موضوع في هذه الأجساد ، أو بالأدقّ محجوز فيها محدود بها يتأثّر بها على الدوام ، وبشكل لا يمكننا التحكم فيه .

     إنّ هذا الشيء الذي يسكن الأجساد والذي يمثّل هويّتنا في البُعد العميق هو ما يسمّى الروح ، أو الوعي ، أو الحياة .

     وإنّ معرفة الرّوح ليست قريبة المنال ، بل هي ربما مستحيلة ، ولكننا لا نجزم بهذا ، فالقرآن إنّما نبّه أنّنا أوتينا من العلم قليلاً فقط ، وأن الروح من أمر الله ، ولكن كل شيء من أمر الله ، وحقيقة محدودية علمنا مقطوع بها ، ولو علمنا شيئًا عن الروح ، والله – سبحانه – أعلم .

     إنّ هذه الروح – لنصفها أو نشرح موقعها – هي تبدو كقطعة مقدّسة من أمر الله – سبحانه – - ولا نقول جزء من الله – سبحانه – - ، لولاها لما كان حيٌّ ، ولما كانت هويّة سوى هويّة الله ، ولا تزال هوية الله هي المطلقة ، أما هويتنا فهي محدودة بجبروت الله الذي قهر كل شيء بالعلم وبالإطلاق وبالثبات . إنّها عطيّة من الله الذي قضى أن تكون الحياة وتوجد هذه المخلوقات التي تعيش على ما خلق الله ، تقتات عليه وتتأمّل فيه وتقدّره وتتعجّب من بديع الصنعة فيه وتعبُد خالقه ، وكان ذروة ذلك الخلق الإنسانُ الذي حمل الأمانة .

     إنّني أصفها كأجمل قصة في الوجود والتاريخ ، إنها القصة التي كانت بداية الحياة في الكوكب كلّه ، والتي تفسّر عقولنا المدهشة ، ووعينا الحيّ ، وذواتنا وهويّاتنا الرفيعة عن هذا العالم الماديّ المحدود ، ويا لغبن من لم يعترفْ بوجوده الراقي العلويّ وجعل نفسَه بهيمةً لا غايةَ لها ولا استقلاليّة ، ولم يفكّر في تلك الذات التي جعلته يتخطّى حدود وجوده الماديّ ويستشعر انتماءه لما هو أعلى منه .

     ومع ذلك فإني أستدرك على هذا الكلام أنّ شعورنا أننا لا ننتمي كليًّا لهذا الجسد فحسب قد يكونُ من قبيل تقييمنا لأنفسِنا ، إنّنا أحيانًا نستغرب من أنفسنا لماذا نفكّر بطريقةٍ ما أو بعاطفيّة ؟ أو لماذا نشعر بالحزن أو الضجر ؟ وغيرها من الأسئلة والأفكار .

     في الحقيقة أنّنا نواجه هنا قدرًا معتبرًا من الحيرة ، إننا لا نفكّر سوى بخلايانا العصبية المتشابكة ، ليس لدينا غيرُها .

     هل هذه الخلايا هي الروح أو الوعي أو الحياة ؟ هذا سؤال يجيب عليه البعض بـ: نعم .

     ولكن ربما علينا أن نفكّر مجدّدًا ؛ لأنّنا عرفنا مؤخرًا أن قلوبنا تفكر أيضًا وتصدر قراراتٍ ربما أكثر من العقول التي في جماجمنا ، وبقلوبنا مئات الآلاف من الخلايا العصبية ، هل تكون هي الوعي ؟ بالإضافة لكونها مصدر الحدْس والإيمان ؟

     هل أعصابنا مستقلّة استقلالاً تامًّا عن بقية أجزاء أجسادنا حتى تكون هي كالحكم المحايد الذي يستغرب ويتأمّل ويحكم ويقوّم بالإضافة إلى أعمال وظيفيّة غير إدراكيّة أخرى – كالنبض والتنفّس والحماية – ؟

     قد يكون سؤالاً فلسفيًّا علميًّا في آن واحد ، يحتاج إلى موضوعيّة علميّة متجرّدة مع فلسفة مستنيرة أمينة حتى نقضي فيه الجواب الأقوم . وبالمناسبة ، فإن الفيلسوف الذهني الأمريكي جون سورل يجيب على هذا بـ: نعم كما يبدو من بعض خطاباته .

     وهو أيضًا سؤال خطير ، فهو يتدخّل في مفهوم الإرادة الحرّة – free will فيعززها أو ينقضها ، ولكنّي لا أراه إلا يعززها ؛ لأنّه يدل علماء الأعصاب الصادقين المستنيرين على قوّة الإرادة البشرية واستقلاليتها لحد بعيد جدًّا ، حتى عُرِف ما يسمى بالمرونة العصبية – neuroplasticity التي تسمح لكلّ إنسان أن يغيّر من توصيلات دماغه حتى ، وهو يعزّز جدًّا بطريقة ما مفهوم الفطرة عندنا ، وأنّ كلّ نفسٍ بما كسبت رهينة ، ولا تزر وازرةٌ وزر أخرى ، بل الإنسان على نفسِه بصيرةٌ ولو ألقى معاذيرَه ، ولكن هذا – في تقديري – لا يكون إلا في حدود ما يحاسب الله عليه المرء لا في كل شيء صغير وكبير ، وهذا أيضًا يتداخل مع موضوع المحاكمة بالمقابلة الذي أفترض توفّره لدى كلّ عقل بشريّ على الأقل ، ولستُ أدري إن كان قد بُحِث قبلُ أم لا .

     أمّا مجادلة أنّ " الأعصاب والقلب والدماغ كلها تكون موجودة حتى بعد الموت ، فما الذي يجعلها حية ؟ " فلا أظنّها مجادلة دقيقة في موقعها ، فعمل العقل والقلب مرتبط مشترط بموارد هي تكون محمّلةً في الدّم ، فإذا أصبنا بجلطة أو تلف في عضو أو فيروس قاتل أو داء مميت فإن هذه الموارد لا تصِل إلى هذه الأدوات ، فلا تعملْ – ولا يخفى أن الحدث المسبّب لهذا التلف والعطَل هو مرهون بقدَر الله المحض – ؛ فكما قلنا نحن محدودون محجوزون في إطار المادّة الآن ، وبعدمها يُعدَم وجودنا النسبي على الأقل أو الماديّ ، فقد لا تكون هذه المجادلة تفيد شيئًا .

     أمّا الموت الدماغي أو السريريّ ، فمع أنّ الجسم يحافِظ على خلاياه من العطَب والتحلُّل ، فهذه الحالة تُعدّ مقدّمةً للموت النهائيّ ، ومعظم حالات الموت الدماغي أو الموت السريري لم يسجّل منها حالات استرداد للوعي بل انتهتْ بالوفاة القانونيّة ، ولا يعودُ الشخص لحالته الطبيعيّة إلا باسترداد وظائف الدماغ الطبيعيّة . فيظلّ السؤال : " هل الرّوح في شيءٍ من العقل ؟ " مطروحًا .. والله – سبحانه وتعالى – أعلم .

     وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه ومن والاه ، والحمد لله رب العالمين .


بسّام بن عصام يغمور
مكّة – 26/1/1435 بتقويم أم القرى

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق