باسم
الله
تأمُّلات
في الرّوح
الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا
نبيَّ بعده ، وآله وصحبه ومن والاه .
أما بعدُ ..
فنحمد الله – تبارك وتعالى – أنّنا كمؤمنين
مسلمين نؤمن بالرّوح ، ونؤمن تبعًا لذلك أنّنا لا ننتمي كليًّا لعالم المادّة
المَقِيس ، ولكننا أرواح محتجزة في أجساد إلى أمدٍ قريب ، ثم مصير هذه الروح
للخروج من الجسد والخلود ، بينما الجسد يتحلّل وتدور عناصره المتحللة في دورات
الطبيعة المختلفة إلى أن يطوي الخالق – سبحانه – السماوات والأرض ويقيم القيامة .
وأعتبر أنّنا بهذا الإيمان قد قطعنا شوطًا
ليس هيِّنًا في سبيل الفهم المنطقي والمعقول لعالمنا والحياة ، والذي قد لا نصل
إليه لو سلكنا طريق العلم البحت وحده . لأنّنا فعلاً لسنا نختار أجسادنا ، ولسنا
نملكُها في الحقيقة ، وحتى أننا لا نعرف عنها كلّ شيء إلا بطريق الاكتساب الشاق في
أحيان كثيرة .
لنفهمَ ذلك ، نتساءل : هل نظرتَ يومًا في
يدك ، وفكّرت : ما الذي جعلها على هذا النحو ؟ لماذا قد تبدو غريبة لولا أنني
تعوّدت عليها ؟ ألم تنظرْ لها يومًا من الأيّام ولم تتصوّر أن بها تلك الخلايا
الصغيرة المعقدة جدًّا ، وأنّ تلك الأظفار ما هي إلا مادة الشَّعر نفسها ، وأنّ في
داخل كل تلك الخلايا شرائط طويلة جدًّا تشكّل هويّتك ، ملتفة بشكل معقد بديع داخل
نواتها ، وأنّ كل الخلايا لديها نفس ذلك الشريط ، ولكنها تختلف في وظائفها مع ذلك
؟
ألم تصبْ بالمرض يومًا ما ، ولم تعلمْ ما
السّبب من ورائه ، وكلّ ما تتمنّاه في ذلك الوقت أن تستعيد صحّتك لتؤدي وظائفك على
ما تريد ؟ ثم اكتشفت أنّ خلايا جسدك تقاوم أمراضًا لم تعلم عنها يومًا ، ولذلك
تصاب بالحمّى ويتعطّل جزء من تفكيرك ويتعكّر مزاجك وتضيق دنياك ، وكأن تلك الخلايا
كائنات عاقلة أخرى تقوم بحمايتك عوضًا عنك وبلا أي تدخّل منك ؟
إنّنا فعلاً عند تأمّلنا لطبيعتنا وهويّتنا
نلاحظ أننا لسنا أجسادنا ، إننا شيءٌ ما موضوع في هذه الأجساد ، أو بالأدقّ محجوز
فيها محدود بها يتأثّر بها على الدوام ، وبشكل لا يمكننا التحكم فيه .
إنّ هذا الشيء الذي يسكن الأجساد والذي
يمثّل هويّتنا في البُعد العميق هو ما يسمّى الروح ، أو الوعي ، أو الحياة .
وإنّ معرفة الرّوح ليست قريبة المنال ، بل
هي ربما مستحيلة ، ولكننا لا نجزم بهذا ، فالقرآن إنّما نبّه أنّنا أوتينا من
العلم قليلاً فقط ، وأن الروح من أمر الله ، ولكن كل شيء من أمر الله ، وحقيقة
محدودية علمنا مقطوع بها ، ولو علمنا شيئًا عن الروح ، والله – سبحانه – أعلم .
إنّ هذه الروح – لنصفها أو نشرح موقعها – هي
تبدو كقطعة مقدّسة من أمر الله – سبحانه – - ولا نقول جزء من الله – سبحانه – - ،
لولاها لما كان حيٌّ ، ولما كانت هويّة سوى هويّة الله ، ولا تزال هوية الله هي
المطلقة ، أما هويتنا فهي محدودة بجبروت الله الذي قهر كل شيء بالعلم وبالإطلاق
وبالثبات . إنّها عطيّة من الله الذي قضى أن تكون الحياة وتوجد هذه المخلوقات التي
تعيش على ما خلق الله ، تقتات عليه وتتأمّل فيه وتقدّره وتتعجّب من بديع الصنعة
فيه وتعبُد خالقه ، وكان ذروة ذلك الخلق الإنسانُ الذي حمل الأمانة .
إنّني أصفها كأجمل قصة في الوجود والتاريخ ،
إنها القصة التي كانت بداية الحياة في الكوكب كلّه ، والتي تفسّر عقولنا المدهشة ،
ووعينا الحيّ ، وذواتنا وهويّاتنا الرفيعة عن هذا العالم الماديّ المحدود ، ويا
لغبن من لم يعترفْ بوجوده الراقي العلويّ وجعل نفسَه بهيمةً لا غايةَ لها ولا
استقلاليّة ، ولم يفكّر في تلك الذات التي جعلته يتخطّى حدود وجوده الماديّ
ويستشعر انتماءه لما هو أعلى منه .
ومع ذلك فإني أستدرك على هذا الكلام أنّ
شعورنا أننا لا ننتمي كليًّا لهذا الجسد فحسب قد يكونُ من قبيل تقييمنا لأنفسِنا ،
إنّنا أحيانًا نستغرب من أنفسنا لماذا نفكّر بطريقةٍ ما أو بعاطفيّة ؟ أو لماذا
نشعر بالحزن أو الضجر ؟ وغيرها من الأسئلة والأفكار .
في الحقيقة أنّنا نواجه هنا قدرًا معتبرًا
من الحيرة ، إننا لا نفكّر سوى بخلايانا العصبية المتشابكة ، ليس لدينا غيرُها .
هل هذه
الخلايا هي الروح أو الوعي أو الحياة ؟ هذا سؤال يجيب عليه البعض بـ: نعم .
ولكن ربما علينا أن نفكّر مجدّدًا ؛ لأنّنا
عرفنا مؤخرًا أن قلوبنا تفكر أيضًا وتصدر قراراتٍ ربما أكثر من العقول التي في
جماجمنا ، وبقلوبنا مئات الآلاف من الخلايا العصبية ، هل تكون هي الوعي ؟ بالإضافة
لكونها مصدر الحدْس والإيمان ؟
هل أعصابنا مستقلّة استقلالاً تامًّا عن
بقية أجزاء أجسادنا حتى تكون هي كالحكم المحايد الذي يستغرب ويتأمّل ويحكم ويقوّم
بالإضافة إلى أعمال وظيفيّة غير إدراكيّة أخرى – كالنبض والتنفّس والحماية – ؟
قد يكون سؤالاً فلسفيًّا علميًّا في آن واحد
، يحتاج إلى موضوعيّة علميّة متجرّدة مع فلسفة مستنيرة أمينة حتى نقضي فيه الجواب
الأقوم . وبالمناسبة ، فإن الفيلسوف الذهني الأمريكي جون سورل يجيب على هذا بـ:
نعم كما يبدو من بعض خطاباته .
وهو أيضًا سؤال خطير ، فهو يتدخّل في مفهوم
الإرادة الحرّة – free will فيعززها أو ينقضها ،
ولكنّي لا أراه إلا يعززها ؛ لأنّه يدل علماء الأعصاب الصادقين المستنيرين على
قوّة الإرادة البشرية واستقلاليتها لحد بعيد جدًّا ، حتى عُرِف ما يسمى بالمرونة
العصبية – neuroplasticity التي
تسمح لكلّ إنسان أن يغيّر من توصيلات دماغه حتى ، وهو يعزّز جدًّا بطريقة ما مفهوم
الفطرة عندنا ، وأنّ كلّ نفسٍ بما كسبت رهينة ، ولا تزر وازرةٌ وزر أخرى ، بل
الإنسان على نفسِه بصيرةٌ ولو ألقى معاذيرَه ، ولكن هذا – في تقديري – لا يكون إلا
في حدود ما يحاسب الله عليه المرء لا في كل شيء صغير وكبير ، وهذا أيضًا يتداخل مع
موضوع المحاكمة بالمقابلة الذي أفترض توفّره لدى كلّ عقل بشريّ على الأقل ، ولستُ
أدري إن كان قد بُحِث قبلُ أم لا .
أمّا مجادلة أنّ " الأعصاب والقلب
والدماغ كلها تكون موجودة حتى بعد الموت ، فما الذي يجعلها حية ؟ " فلا
أظنّها مجادلة دقيقة في موقعها ، فعمل العقل والقلب مرتبط مشترط بموارد هي تكون
محمّلةً في الدّم ، فإذا أصبنا بجلطة أو تلف في عضو أو فيروس قاتل أو داء مميت فإن
هذه الموارد لا تصِل إلى هذه الأدوات ، فلا تعملْ – ولا يخفى أن الحدث المسبّب
لهذا التلف والعطَل هو مرهون بقدَر الله المحض – ؛ فكما قلنا نحن محدودون محجوزون
في إطار المادّة الآن ، وبعدمها يُعدَم وجودنا النسبي على الأقل أو الماديّ ، فقد لا
تكون هذه المجادلة تفيد شيئًا .
أمّا الموت الدماغي أو السريريّ ، فمع أنّ
الجسم يحافِظ على خلاياه من العطَب والتحلُّل ، فهذه الحالة تُعدّ مقدّمةً للموت
النهائيّ ، ومعظم حالات الموت الدماغي أو الموت السريري لم يسجّل منها حالات
استرداد للوعي بل انتهتْ بالوفاة القانونيّة ، ولا يعودُ الشخص لحالته الطبيعيّة
إلا باسترداد وظائف الدماغ الطبيعيّة . فيظلّ السؤال : " هل الرّوح في شيءٍ
من العقل ؟ " مطروحًا .. والله – سبحانه وتعالى – أعلم .
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه ومن
والاه ، والحمد لله رب العالمين .
بسّام بن عصام يغمور
مكّة – 26/1/1435
بتقويم أم القرى
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق