المشاركات الشائعة

الاثنين، 23 يونيو 2014

ما الذي نمضي فيه أعمارنا ؟

باسم الله

ما الذي نمضي فيه أعمارنا ؟

     هوَ سؤال لا بدّ لكل إنسان أن يسألَه نفسه ؛ لا لشيء سوى أنّه في لحظة من لحظات حياته سيُدرِك أنّه أنفَق كمًّا من رصيده من العمُر لن يعود وربما ينتهي رصيده قريبًا بالكامل ، ويعلم يقينًا أنه حينها سيتمنّى أنه سينظر بفخر وطمأنينة لما أنفقه من عمره غير ندمان ولا متحسّر .

     هذا السّؤال يُجاب عنه بأجوبة كثيرة ، وكثيرٌ منها مكرّر متوارَث . المناصب والجوائز مجتمعيًّا وثقافيًّا ، والأهداف المحددة كالوظائف والمشاريع المختلفة ، كلها أجوبةٌ معهودة ، ولكنّ هذه بالذات أمثِلة على الأجوبة الناقصة التي لا تسمن ولا تغني من جوع ، ولكنّ من الناس من لا يزال يكرّس حياتَه لها غير واعٍ لما يخطّطه من خسارته العاجلة والآجلة .

     إنّ الثقافة الآلية الميكانيكية في الحياة لم تزل موجودة في الناس منذ عهود الطفرة الصناعية ، كل شيء يتعلق بالتخطيط وتحقيق الأهداف والكفاءة والعمليّة ... ولكنّ الروح والجانب المعنوي في المعادلة قد اختفى واختلّ معه التوازُن ، وهذا هو ذاته ما أفرز نوعًا جديدًا من التفكير في العقود الأخيرة ، أدركت خطورة هذا الخطأ وحجم الخسارة التي يسببها ، مثل العادات السبع لستيفن كوفي كأبرز مثال ، ولكنّ هذا لم يمنعْ من نسيان الكثير من الناس حتى اليوم لما قد توصّلْنا إليه من أهمية الجانب المعنوي والروحي في الحياة والسعادة ، وأهمية ذلك المحورية في الحياة والرضا عنها .

     سواء عاد ذلك إلى طبيعة الإنسان الاجتماعية ، أو طبيعته المثنوية – الروحية الجسدية ، أو غير ذلك ، فإنّ تحقيق أعظم الأهداف التي يُمكِن حسابُها بالأرقام أو قياسها اجتماعيًّا ، لن تعنيَ شيئًا للشخص ، أو قد تكون خسارةً في حقه ، ما لم يتضمّن ذلك إرضاءً للضمير وإشباعًا للحاجات المعنويّة له ، روحيّةً وعاطفيةّ واجتماعيّةً ( ولا يخفى أنّ من النجاح الاجتماعي ما هو نقمةٌ على صاحبه لما يمثّله من نفاق وفراغ ذاتيّ في الهويّة وانعدامٍ لها ناتجٍ من السعي وراء اهتمام الجماهير السطحيّ تمامًا – من يريد من مغنٍّ سوى أغانٍ يقضي عليها وقتَ فراغه ، ومن يريد من رسّام سوى لوحات جميلة يضعها في غرفة الجلوس ، ومن يريد من خطيب أو شخصية اجتماعية سوى الحضور الدائم والمزيد من الكلام ... من يأبَه لمشكلاته وتحقيق أهدافه الشخصية وتوازنه الروحي والمعنويّ ما دام ذلك لا يؤثّر على إنتاجه المستهلَك من قبل الناس ؟! – ) .

     العمل الزائد لأجل أهداف مادية – أي ليست ذات علاقة بالناس – يكلّف الإنسان طبيعتَه الاجتماعيّة التي لا مفرّ منها ، ويأتي ذلك العمل الزائد في شكل تخطيط مسبق مبالَغ فيه ، وقلق مستمرّ مكدّر للحياة اليوميّة له ولمن معه ، وعدم استقرار ناتج من سعيٍ حثيث وراء الهدف مع إغفال لما عدا ذلك من طبائع حيويّة وحاجات معنوية للشخص ولذويه .

     إنّ المعادلة المثلى للحياة النفسية للمرء في هذا الجانب هي الموازنة بين أمرين : أداء الواجب والوظيفة ، والحفاظ على توفير الحاجات الاجتماعية والنفسية المعنوية .

     أداء الواجب يكونُ عبر قيام المرء بوظيفته في هذا الكون ، التي يحدّدها له تكوينه وخِلقَته وإمكانياته الفطرية والمكتسَبة ، وهذا لا مفرّ منه في الحياة النفسية الصحية ؛ لأنه لا مفرّ من الشعور بالذنب الذي سينتج إن تجاهله الإنسان وقصّر فيه عن تكاسُل أو عمْد ، ولكنّ أداء هذه الوظيفة – مع ذلك – سيكون خسارةً وضياعًا للعمر والجهد إذا زاد عن حدّه ووصلَ إلى الطغيان على النعيم النفسي المعنويّ .

     أما الحاجات النفسيّة المعنويّة فهي في الوقت الطيب مع الصحبة المتفهّمة ، وفي لمْس رضا الناس عن المرء والشعور بالأثر الإيجابي على نفسياتهم ، وقبله الإحساس الداخلي برضا الله – سبحانه وتعالى – وسلامة الضمير . القسوة – وإن كانت من جانب الحق – ستكونُ أثرًا رجعيًّا سيئًا إذا لم تُتدارَك ببيان الحبّ ورغبة الخير والإخلاص في ذلك ، بل والتماس القيمة النفسية المعنوية وراء ذلك ، سواء كان من رضا الناس واكتساب المكانة المحبوبة بينهم مع الحفاظ على أصالة الهوية الذاتية ، أو إرضاء الله وتحقيق صلاح الذات وطهارتها . وتحقيق الأهداف الماديّة الرقميّة العظيمة لن تكونَ مشبِعة للحاجة المعنويّة في اللحظات الأخيرة كذلك ما لم تحقّق الشروط السابقة .



الممرضة بروني وير والمنادم الخمس التي اتفق عليها المرضى على فراش الموت : 1- أتمنى لو كانت لي الشجاعة لأعيش حياتي الحقيقية لا كما يتوقع الناس . 2- أتمنى لو أني لم أعمل باجتهاد كبير . 3- أتمنى لو كانت لي الشجاعة لأعبر عن مشاعري . 4- أتمنى لو استمررت في التواصل مع أصدقائي . 5- أتمنى لو تركت نفسي أصبح أكثر سعادة .


     إنّ المفتاحَ الذي يغفله الذين أعْملوا عقولهم وغالَوا في ذلك وأنهكوها في التِّيهِ بين ردهات الاحتمالات المنطقيّة والأهداف الماديّة الخالية من القيمة والمعنى المطلَق الخالص – إنّ المفتاحَ الذي يغفله هؤلاء هو في المعنى والروحانية .. أو أيًّا ما تُوصَف به أعماق النفس الإنسانيّة وجوهرها الذي تسكنُ إليه كلّما أنهكها السعي ولعبتْ بها الحيرة .

     لا تغترّ بكونك على حقّ لتصلَ إلى الجفاف والجلافة ، ولا  تغترّ بكونك تخطط وتسعى للأهداف العظيمة لتقطع اتصالك بالناس وبالمعنى ، ولا بكونِك مهتمًّا بالنّتائج والعمليّة لتغفل الحلال والحرام ومراقبة الله وقلبك – هل ما زال أبيضَ أم غُلِّفَ بالران – في الصغيرة والكبيرة ، ولا تغترّ بكونك حذرًا وصاحبَ نظرةٍ بعيدة تخطّط لأهداف ومشاريع المستقبل القريب والبعيد لتجعلَ كلّ حِمل أهدافك وطموحاتك على كتفيْك ، اترك دائمًا الحركة الأولى والأخيرة لله .. اعترفْ بحقيقة ذاتك المحتاجة للتقدير والتفاهم والاتصال والسكينة ، ووفّر حاجاتها ، وتذلّل لله وسلّم نفسَك إليه .


     في آخر العمر ، ستسعدنا اللحظات السعيدة التي أعطيناها للناس ، سنحمد أنّنا عشنا أناسًا جيّدين وأعطينا للناس الأفضل ووفّرنا لهم قدرًا من السعادة ، وعشنا مع أنفسنا حياةً سالمة راضيةً مطمئنّة . ليس منا من يندَم على ساعةِ قضى فيها وقتًا سعيدًا راضيًا خالصًا مع نفسه أو مع الغير ولو لم يوصلْه ذلك " لأهدافه " وطموحاته المادية ، ولن يندمَ منا أحدٌ على ساعةٍ رُوحانية بينه وبين ربّه يصحّح فيها مسارَه ويلتمس أعماق نفسه ، ولكنّ هناك الكثير ممن ندِموا على دفْن عواطفِهم ونسيانِ حاجاتهم المعنويّة ليقضوا ما تبقى من رصيد أعمارهم في فقدان الدفء المعنوي حالاًّ مكانَه الجفاف والوحدة واللاروحانيّة . ولكن – قطعًا – كلا الفريقين سيشتركان في الندم ، إن طغا الواجب على الحاجة .. أو العكس ..



مكة – 25/8/35 – 6:35ص

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق